د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
واستكمالاً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي، من مقالنا المروءة.. فإن لها قاعدة رصينة، يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأمته في حسن العلاقات الاجتماعية، قبل أن تتحدث في ذلك الأنظمة الإدارية، أو تقننها نظريات علم الاجتماع.
وما ذلك إلا أن المحسوس في حياة الناس، حسبما يتراءى أمامهم، من نماذج بالمعهود عندهم، وبالمقارنة في الوضوح والمنهج والسلوك والنتائج، حيث تبرز بالمقارنة مع حصيلة حسن الخلق.
ورغم أن حسن الخلق، ودقائق تأثيراته، يحتاج إلى دراسة تحليلية، بالنتيجة، كما يلمس بالجلسات والعقاقير في علم النفس الحديث في إيجابية تلك الوسائل، إلا أنه بمنظور الإسلام ونتائجه، والدعوة إليه يختلف عن نظريات علم النفس، واهتمامات علم الاجتماع والإدارة، لأن مطلبه غير مطلبهما، والمنبع الذي يستقي منه، غير المنبع الذي يستمدان منه.
وبمقارنة المعقول بالمنقول، فإن النتيجة في المنظور الإسلامي تعد حقيقة لا جدال فيها، وأما العلوم الإنسانية الأخرى، علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الإدارية، تعد نتائجها «نظرية»، والفرق بين الحقيقة والنظرية، أن الحقيقة ثابتة والنظرية قابلة للأخذ والرد.
فحسن الخلق يوجه إليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونتائج علمي النفس والاجتماع يدعو إليها، ويقنن علاجها علماء مادّيون، لا يؤمنون بالإسلام ولا بأثره في طمأنة القلوب، بدليل اختلاف الأثر الذي أرادوه علاجاً من شخص إلى شخص، وينتقض بعضهم نظريات بعض، وصدق الله العظيم في قوله الكريم: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (سورة النساء، الآية 82).
وهذه الدراسة تستكمل بها حلقات الموضوع، وما يحيط به، ولا يمكن تأديتها، إلا من كان عنده حصيلتان:
الأولى: حصيلة شرعية إسلامية جيدة، ليستظهر بها الدارس النصوص، ويدرك من ورائها تأثيرها في الآخرين مخاطبة وعملاً، وأخذاً وعطاءً.
الثانية: حصيلة علمية وعملية حديثة بإدراك الأثر، عند المتلقين، يدرك الباحث الجيد من الأمور المفيدة ما لا يدركه الإنسان العادي.. فالباحث والمتعمق في النتيجة، يقارن الحسنات المفيدة: للفرد والجماعة بما تحققه شريعة الإسلام التي تتشعب في النفوس، حيث تبين فضله وشموليته، فتكتسب النفس بذلك قدرة على أثر ما جاء في تعاليم الإسلام، حسب النص الشرعي، تتمايز بها، عما وقر في بعض النفوس من معتقدات أخرى، مناهضة للنص الشرعي، وما فيه من سماحة ومخاطبة للأحاسيس، لأن ما جاء في مصدري الإسلام: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، يخاطبان الوجدان، ومقنعان لذوي الأحاسيس المتعطشة للمورد العذب.
وهذا ما يعد عرفاً: الدراسة المقارنة، ونقصد بالمقارنة: تغلب تعاليم الإسلام لأنها الأساس الذي يطلبه الله من عباده، ولا يريد سبحانه إلا الخير والمصلحة الظاهرة... أما ما يكون أمراً تردد فيه الإنسان، فإن دور المتردد الاستخارة وسؤال أهل العلم والدراية، ليعينوه على اتجاه المنهج الذي فيه سعادته، استئناساً بالقول الكريم في محكم التنزيل: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة النحل، الآية 43).
وقد منح الله الإنسان عقلاً، يوازن به ما يعرض عليه، والتحلي بحسن الخلق سمة طيبة، تجعل صاحب العقل المتبصر الذي يأخذ كل ما يلقى عليه، بنظرة متأصلة، لأن التحلي بحسن الخلق، والتمسك به طبعاً لا تطبّعاً، يعطي تمثيلاً عملياً، عن دوره في كسب النفوس، ودوراً إيجابياً عن أثره في تغيير الاتجاه، إلى ما هو أحسن، وما جاء عن الله، وبلغة رسوله الكريم، لا شك أنه هو الأحسن.
فهذا الأشعث بن قيس يوصي بنيه، بأمور هي من خصال حسن الخلق، التي تعطي مدلولاً جيداً في تكوين حسن الخلق، التي لها أثر في تكوين الشخصية المستقلة المؤثرة، فيقول: يا بني ذلّوا في أعراضكم، وانخدعوا في أموالكم، ولتخفّ بطونكم من أموال الناس، وظهوركم من دمائهم، فإن لكل امرئ منكم تَبِعَة، وإياكم وما يُعتذر منه، ويُستحى، فإنما يُعْتَذرُ من ذنب، ويُستحى من القبيح، وأصلحوا أموالكم عند جفوة السلطان، وتغيّر الزمان، وكفوّا عن حاجة أو مسألة، فإنه كفى بالردّ منعاً، وأجملوا في الطلب، حتى يوافق الرزق قدراً.
وهذه الأمور التي يريدها الأشعث لبنيه، هي نموذج من النماذج العملية المستمدة من قاعدة الإسلام المكينة، في تهذيب النفوس، وتكوين الشخصية، وكل شيء يلمسه الناس واقعياً ومشاهداً أثره، فما هو إلا ثمرة عاجلة لحسن الخلق، ونتيجة من فوائده في الدعوة وميدانها الفسيح، وباب من أبواب الترغيب في الإسلام، الذي طبع أبناؤه بهذه الخصال، بعد أن بدلهم من حال إلى حال، وزجر نفوسهم عن التمادي في مقابلة الإساءة بالإساءة، وقد قيل لسفيان بن عيينة: قد استنبطتَ من القرآن كل شيء، فأين المروءة فيه.. قال في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (سورة الأعراف، الآية 199).
ففيه المروءة، وحسن الآداب، ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، الرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صِلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغضّ البصر، والاستعداد لدار القرار. ودخل في قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، الحضّ على التخلّق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزّه عن منازعة السفهاء، ومساوات الجهلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة «ينظر ما قاله ابن كثير في تفسيره لهذه الآية».
من هذا المفهوم الذي أدركه علماء الإسلام الأوائل، استطاعوا أن يؤثروا في أمم الأرض، بأعمالهم وأخلاقهم، وأدخلوا الإسلام في شرق وجنوب آسيا، بما بثوه في الأمم، من خصال الإسلام، في التعامل والصدق والقدوة الحسنة، وحسن التعامل، فأحبّت تلك الخصال ديناً هذه طباع أهله، وما تأصل في أعمالهم خصال حميدة، هي من تعليم دينهم، فتأثروا بهم، علماً بأن تلك الديار، لم تطأها جيوش الإسلام للدعوة.
ولله الحمد فقد تزايد عدد من دخل في دين الله عن رغبة، وتخلقوا بأخلاقه، وما يدعوهم إليه. القدوة الحسنة، والرفق والصدق، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم «القدوة الحسنة» حقَّقا الشيء الكثير، لأن حسن الخلق واجتماع الأمر من المروءة.
قال الحُصين بن المنذر الرقاشي:
إن المروءة ليس يدركها امرؤٌ
ورث المكارم عن أبٍ فأضاعها
أمرته نفسٌ بالدناءة والخنا
ونهته عن سُبُل العلا فأطاعها
فإذا أصاب من المكارم خُلَّةً
يبني الكريمُ بها المكارم باعها
جعلنا الله وإياكم ممن يقتدي بخير البشرية رسوله الكريم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم...