د.محمد ابن سعد الشويعر
استكمالاً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي في الجزء الأول عن شهر رمضان المبارك نكمل مستعينين بالله.
وكما جاء في حديث (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)، وكان علماء السلف يحرصون من منطلق هذا الحديث، على التنفيذ بأمر الصبيان إذا أطاقوه، وضربهم عليه ليعتادوا لكنه لا يجب عليهم إلا بعد البلوغ، وهذا يدل على أهمية شهر رمضان في شريعة الإسلام، الذي تحايل من قبلنا، فمنهم من جددوا أياماً في فصل الشتاء ومنهم من يصوم بعض الليالي، ومنهم من يصوم عن نوع من الأطعمة كبعض النباتيين، ومنهم من يتحايل في الصيف وأحياناً في الشتاء لأنه من الشهور القمرية، وجاء في تسمية الشهور القمرية أسباب لتسميتها عند العرب فكان رمضان أول ما أطلق عليه هذا من الرمضاء، وهي شدة حرارة الشمس في كتب التوسعات (الموسوعات) العربية، لأن التسمية من المجانسة، صفة أو وسماً وغير ذلك، كما قال ابن قتيبة في كتابه: فقه اللغة، ومن ذلك تسمية الشهور كلها عند النويري في موسوعته أيضاً.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يجود في العبادة، وفي العشر الأواخر يشد المئزر في رمضان، ويعتكف في آخر الشهر ويوقظ أهله. ويقول لأصحابه في شهر شعبان لترغيبهم في الخير: أقبل عليكم شهر فاستعدوا له: (أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار)، كيف لا وهو شهر نومه عبادة؛ لأنها تقوّي على طاعة الله، وليله صلاة ونوافل، وريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما جاء في الحديث: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من المسك): نهاره صيام وتلاوة للقرآن، وليله صلاة وقيام، وترقّ فيه القلوب، وتجود الأيدي بالصدقة والمساعدات.
ولذا كان على المسلمين الاستبشار به، واغتنام فرصه في طاعة الله، ويتطلعون في الأفق لترائي هلاله، فإذا رأوه استبشروا وهنأوا بعضهم بعضاً، طمعاً فيما أعدّه الله للصائمين من أجر، تلمساً للخير، كلمة طيبة، وتلاوة كتاب الله، وحرصاً على معرفة المحتاجين ليجودوا بما أعطاهم الله، وترق القلوب وتحفظ الألسنة إلا عن الذكر وتلاوة القرآن والكلام الطيب. وتراءي هلاله فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا، ويجب الصيام بثلاثة أمور:
إكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو رؤية هلال رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن وجد غيم أو قتر كالغبار، ليلة الثلاثين مما يحول دون الرؤية، فإن رآه واحد عدل مع ذلك صام وصام الناس بشهادته، وإلا الشهر ثلاثين يوماً).
أما عند نهاية الشهر فلا يفطر الناس إلا بشهادة اثنين عدول، أو كمال الشهر30 يوماً، ولا يفطروا بقول الواحد قبل الثلاثين.
جاء في حاشية العدة على العمدة: مسألة ولا يُفطر إلا بشهادة عدلين؛ لما روى عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، والضمير يعود للهلال، فإن غُمّ عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وافطروا) رواه النسائي.
ولأن هذه الرؤية يدخل بها في العبادة، ولهذا قيل فلم يقبل بها الواحد كسائر الشهادة، كما في آخر سورة البقرة بالشهادة على الدَّيْن: رجلان أو رجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، وجاء التعليل: بأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
ولا يُفطر في الخروج من رأى الهلال وحده، لما روي أن رجلين قدما المدينة وقدر رؤية الهلال، وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر رضي الله عنه فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر، قال: فما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال؟ وقال الآخر: أنا صائم قال فما حملك على هذا؟ قال: لم أفطر والناس صيام، فقال للذي أفطر، لولا مكان هذا لأوجعت رأسك، ولأنه محكوم به في رمضان، العدة 1: 215.
وعن أحكام المفطرين في رمضان، فإنه يباح لأحدهم المريض الذي يتضرر بالصيام، فإن كان لا يُرجى برؤه يفطر ويقضي، وكذلك المسافر الذي له القصر، فالفطر له أفضل؛ لأن الله سبحانه قال في كتابه الكريم: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (185) سورة البقرة.
ولقوله صلى الله عليه وسلم للحميري: (ليس من البر الصيام في السفر). ويقضيان بعد زوال السفر والمرض، والحامل والمرضع: سواء خافتا على نفسيهما: أفطرتا وقضتا كالمريض، فإن خافتا على ولديهما أفطرتا كالمريض، وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً لقوله تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (184) سورة البقرة، والحائض والنفساء تفطران وتقضيان، وإن صامتا لم يجزهما.
قالت عائشة رضي الله عنها في الحيض: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. والنفساء تقضي الصوم فقط.
وأما العاجز عن الصوم لكبر ومرض لا يرجى برؤه. قال ابن عباس: رخّص له الإطعام عن كل يوم مسكيناً، وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير، إلا من أفطر بجماع في الفرج فإن عليه كفارة مع القضاء.
يا قوم.. أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم خوفاً، وإذا صاموا صامت منهم الألسن والأسماع والأبصار، أليس لنا فيهم أسوة؟.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة «.
فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما في حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة غرفا يُرى ظهورها من بطونها، و بطونها من ظهورها قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام).
وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث،والصيام والصلاة والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل.
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولهذا نهى أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمته كله، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل.
ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
هذا ما تيسر ونشكو إلى الله أحوالنا، ونسأل الله أن يضاعف أعمالنا، فلا إله إلا الله كم ضيعنا من أعمارنا، فكلما حسنت من الأقوال ساءت الأعمال، فأنت حسبنا وملاذنا.
اللهم بلغنا رمضان ونحن في أحسن حال، اللهم نسألك الإخلاص في العبادة.