د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
واستكمالاً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي، من القسم الأول في مقالنا إصلاح النفس البشرية، نكمل مستعينين بالله.
فالطب الحديث مهما أُوتي من تقدم ومعرفة لا يغيِّر بمبضع الجراح، ولا بتحليل المختبر شيئاً من التربية الروحية والجسدية ولا التوجيه العقلي من جمعيات الرفق وحقوق الإنسان، فلا تغيّر التوجيهات بمثل ما تتركه تعاليم الإسلام من أثر، والمختصون في علم النفس، وفلسفة علم الاجتماع، بل حتى النظريات التربوية، وتعقيدات علم الإدارة هذه كلها لا تستطيع أن تحوّل الصفات المتأصلة في بعض النفوس إجراماً أو جنوحاً أو عدم رعاية للأمانة بمثل تعاليم الإسلام. فإن الإسلام إذا وقرت تعاليمه في الفؤاد، وارتوت النفس من منهله العذب.. هذه الأمور تضع على الأعمال التي نهى عنها الإسلام حجاباً يحمي النفس كحارس أمين، يراقب التصرفات ويحجز الجوارح برقابته عن الجنوح، وهذا هو معنى الإحسان الذي أخبر جبريل به النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). إن تعاليم الإسلام حِصن للمؤمن يحميه من كل ضرر، وتهذّب الطباع لسعادة المجتمعات وأمنها.
ولئن وضع المهتمون بالنتائج، والراغبون بتحقيق الأمن في بلادهم التي لا تدين بالإسلام، ودفع الحوافز المادية والتشجيعات المعنوية لتغيير سلوك بعض النفوس، ولكن لم يتحقق ما أمّلوه رغم الجهود والمتابعة، لأن المجرم كالعضو الفاسد في الجسد، إن لم يُستأصل سرى في الجسم كله.
والله سبحانه وتعالى أرأف بعباده، فجاء في حكم القصاص من الله أمراً زاجراً، حيث قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} (179) سورة البقرة.
ففي آيات القصاص، سواء كانت عضواً بعضو، أو نفساً بنفس رادعٌ عن الجريمة أياً كان نوعها، وحماية للمجتمع أن تتسع نقاط الجريمة أو يُتهاون بها.. وهذا هو الرادع الزجري، يقولون عن عنترة بن شداد، أنت أشجع الناس، قال: لا ولكني أضرب الضعيف ضربة يخاف منها الشجاع، وهذا من العدل في حكم الإسلام. وهكذا نرى العقوبات في الإسلام، فإن في تطبيقها حياة للمجتمع كله، أي أن المجتمع بأكمله يطمئن وترتاح نفوسهم مع الآخرين، حيث إن الحكم الزاجر يردع من كانت نفسه تسوّل بإخافة المجتمع، وفي ذلك طمأنة للمجتمع، كما قال مندوب الروم، لما بحث عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فوجده نائماً متوّسداً كومة من التراب، قد أثّرت في صفحة خدّه، فقال: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر».
لأن النظام النفسي الذي يضعه البشر، لا يُحقق الطمأنينة النفسية، لأن ما كان من البشر يعتريه القصور، وما كان من عند الله سبحانه يصلح لشؤون مخلوقاته وعباده ولا يعتريه قصور، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء.
لكن الرقابة العقدية التي يطمئنها النص الإلهي الشرعي والإحصاء الوجداني بإحصاء أعمال النفس، وتلقيها جزاء ذلك، مما يجعل النفس المؤمنة تأخذ بالتي هي أحسن فتزكو في عملها النتيجة الحسنة التي هي جزاء وفاق، كما قال سبحانه في هذا النص الكريم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49) سورة الكهف.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على الله). (من خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأمثال هذا مما يخاطب القلب، ويتفاعل في النفوس أكثر من أي رادع مادي تضعه الأنظمة البشرية وقد اعترف كثير من مفكري العالم بدور تعاليم الإسلام في تأديب وتهذيب النفوس وترقيق الطباع، وارتقاء الأعمال، ومحاربة الفساد الاجتماعي والخلقي.
يقول المسلم الفرنسي: رجاء جارودي في كلمة موجّهة لبعض المفكرين الغربيين: إن حل المشكلات التي يعاني منها الغرب: من جريمة وفساد، وأمراض بدنية ونفسية، وإن القضاء على القلق النفسي، والاضطراب الاجتماعي وإن التخفيف من المخدرات والخمور التي انغمس فيها شباب الغرب، للهروب من واقعهم كل هذا وغيره، قد أوقعهم في مشكلات ومصائب أكبر، لا يتم إلا بالإسلام معالجتها، لأن الإسلام يهذّب النفس ويزكي أعمالها مثلما رقّق طبائعهم من خشونة وجفاء البادية وجعلهم قادة المدنية والعدالة للبشرية.
ويقول أحد حكام الولايات المتحدة: إن خلاص أمريكا والمجتمع الدولي الغربي من الجريمة عن طريق الإسلام، إذ هو يهذّب الطبع، ويحفظ الأمن، لأنني رأيت من خرج من السجن مسلماً لا يعود للجريمة مرة أخرى، ثم يقول هذا الأمريكي: وهو من الولايات الجنوبية الكثيرة الإجرام، وقال لي عندما زرته وكان يدعو الدعاة المسلمين لزيارة السجون والتحدث مع المساجين: لن ينقذ أمريكا من الجرائم الكبيرة والصغيرة إلا الإسلام وتعاليمه وشرع الله فيه، وقد لاحظت أن من خرج من السجن مسلماً لا يعود للجريمة مرة أخرى، بل صلاح نفسه ألزمه البعد عنها.
ذهب رجل إلى إبراهيم بن أدهم وقد كان من أطباء القلوب، وقال له: إني مسرف على نفسي فأعرض عليَّ ما يكون زاجراً لها. فقال له إبراهيم: إن قدرت على خمس خصال لن تكون من العصاة. فقال الرجل «وكان متشوقاً لسماع موعظته «: هات ما عندك يا إبراهيم. فقال:
الأولى: أذا أردت أن تعصى الله فلا تأكل شيئاً من رزقه، فتعجب الرجل ثم قال متسائلاً: كيف تقول ذلك يا إبراهيم والأرزاق كلها من عند الله؟. فقال: إذا كنت تعلم ذلك فهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه. قال: لا، يا إبراهيم هات الثانية: فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصى الله فلا تسكن بلاده، فتعجب الرجل أكثر من تعجبه السابق ثم قال: كيف تقول ذلك يا إبراهيم والبلاد كلها ملك الله؟ فقال له: إذا كنت تعلم ذلك فهل يجدر بك أن تسكن بلاده وتعصيه؟. قال: لا، يا إبراهيم هات الثالثة. فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصى الله فانظر مكاناً لا يراك فيه فاعصه فيه. فقال: كيف تقول ذلك يا إبراهيم وهو أعلم بالسرائر {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (7) سورة طه، ويسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؟. فقال له إبراهيم: إذا كنت تعلم ذلك فهل يجدر بك أن تعصيه؟ قال: لا، يا إبراهيم هات الرابعة: فقال إبراهيم: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخِّرني إلى أجل معدود. فقال الرجل: كيف تقول ذلك يا إبراهيم والله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (34) سورة الأعراف. فقال له: إذا كنت تعلم ذلك فكيف ترجو النجاة؟ قال: نعم. هات الخامسة يا إبراهيم. فقال: إذا جاءك الزبانية وهم ملائكة جهنم ليأخذوك إلى جهنم فلا تذهب معهم، فما كاد الرجل يستمع إلى هذه الخامسة حتى قال باكياً: كفى يا إبراهيم أنا أستغفر الله وأتوب إليه. ولزم العبادة حتى فارق الحياة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.