د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
«الإصلاح في النفس» جملة يرددها الكثير، ولكنَّ قليلٌ مَن يعي معناها؟ لأن هناك أمورًا قبل الإصلاح يجب أن نقيمها في الإنسان، ومن هنا تعرف كيف يتم الإصلاح؟ وقد يطول موضوعنا هذا؛ لذا أحببت أن أضعه في قسمين.
ذكر الله - عز وجل - في كتابه المحكم في سورة الرعد: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. فهذه الآية كبيرة جدًّا في مفهومها، ولها أبعاد كبير في معناها؛ فلن يتغير قوم من حالهم حتى يقوم كل فرد بتغيير ما بداخله بالشكل الصحيح. وهذه قاعدة بسيطة ومفهومة جدًّا لكل إنسان عاقل. لن نستطيع إصلاح حال القوم بدون أن نصلح أنفسنا أولاً، ومن ثم التوجُّه لإصلاح القوم الآخرين، كالابتعاد عن الفساد، والغيبة والنميمة، والحسد، وقتل النفس بغير حق، وتهذيب النفس.. إلخ. وهذا قبل أن نطالب بالإصلاح.
والنفوس البشرية في تكوينها الخلقي واحدة بين الطيب والخبيث، وكذا في تركيب أعضائها، بل في وظائف الخلايا والأنسجة متقاربة، لكن النفوس المؤمنة تختلف عن النفس الكافرة؛ لأن الله طهّر الأولى بالإيمان وحسن الاستجابة لشرع الله الذي شرع لعباده.
ولأن النفس المؤمنة قد زكاها الإيمان، والله يمتن على عباده المستجيبين بالتزكية، وضدها الفجور والخسران، كما قال سبحانه في سورة الشمس في التزكية وضدها فأقسم بها، والله سبحانه يقسم بما يشاء من مخلوقاته بعد أن أقسم جل وعلا بالشمس والقمر والنهار والليل، وأقسم سبحانه بالنفس فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} سورة، الشمس، الآية 7 - 10.
والتزكية للنفوس لا تكون إلا من الله؛ إذ نهى سبحانه البشر عن تزكية أنفسهم فقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم؛ لأن الله طهر نفس المؤمن، بحسن الاستجابة والانقياد بطواعية لأمره جل وعلا، وأُهينت الأخرى بعصيانها، ومعاندتها شرع الله؛ فكانت النفس الزكية في نعيم وسعادة، أما الأخرى ففي شقاء وخسارة.
فالإيمان بالله ربًّا، وإلهًا معبودًا لا شريك له، والتصديق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً من عند الله، مع التصديق بما جاء من عند الله، تزكية للنفس، وطهارة للروح، وإخراج للنفس من أدران النقائص والموبقات.
والنطق بالشهادة يُعتبر أول مدخل للإسلام؛ لأن ذلك دلالة على الاستجابة مع الرغبة في الطهارة النفسية، والابتعاد عن ربقة الضلال. وأسامة بن زيد (حب رسول الله) مع مكانته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غضب عليه رسول الله، وعاتبه، عندما أخبره بأنه قتل رجلاً في معركة بعد أن شهد بوحدانية الله؛ لأن ذلك دلالة ظاهرة على الاستجابة، فقال أسامة «يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من القتل»، فقال الهادي البشير: «هل شققت صدره؟ هل عرفت ما في قلبه؟ كيف بك إذا جاءتك لا إله إلا الله تحاجك عند الله؟». فما زال يكررها حتى قال أسامة - رضي الله عنه -: «وددت أن الأرض انشقت وابتلعتني، أو أن أمي لم تلدني».
إن تعاليم الإسلام وشرائعه تربي النفوس، وتعدها لمكانة كبيرة، وسمة الإسلام التي يحرص عليها المستجيب، وتتكرر في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وتأتي في أحاديث عديدة من توجيهات المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، هي خصال نبيلة، يرفع الله بها النفس المسلمة في طباعها وأعمالها، وفي رغبتها ورجائها من الله، وفي تأثير ونتائج تلك الأعمال.
ذلك أن للإسلام على هذه النفس، التي يجب على المؤمن أن يتعمق في أسرارها، وأن يتبصر في بعض خفايا تكليفها وامتثالها، ضريبة يجب على المسلمين إدراكها في العبادات وحكمها، وفي النفس وطباعها، وفي الأخلاق وتهذيبها.
فحسن الخلق منزلة رفيعة، ترعاها تعاليم الإسلام، ويثيب الله عليها إذا قصد بذلك النية الخالصة لله؛ لأن الأعمال بالنيات، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالاً لحسن الخلق وسماحة النفس؛ إذ مدحه ربه في سورة القلم بتأكيد هذا الخلق ومكانته فقال جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، وكما قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - لما سُئلت عن خلقه: «إنَّ خُلُقَهُ القرآن».
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس منزلة يحث عليها الإسلام؛ لما في هذا من تقويم الاعوجاج النفسي، والدفع للتحمُّل والاحتساب، وهي لفتة خاصة، لها وزنها في إبراز صفات الصابرين وتمييزهم، ولما يرجوه الصابرون من مقام عظيم كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر.
والوفاء بالعهد من سمات الإسلام التي يحرص عليها، ويعدها من شيم الإسلام التي يحرص عليها، جزاء في الميزان، وآية تدل على الإيمان، وعلامة الآدمية البارزة، وبرهان الإحسان؛ لأن الوفاء يوجِد جوًّا من الثقة والصدق، والطمأنينة في العلاقات، فردية كانت أو جماعية.
وإيتاء الزكاة تهذيب للنفس، وتكافل اجتماعي؛ لكي يجود الإنسان بأعز ما يملك للفقراء حقًّا لله في هذا المال، وسخاء به لأهله المستحقين، تطويعًا للنفس في البذل، وترغيبًا لها في الأجر، وتحبيبًا لها في فعل الخير والتخلق بأنبل الصفات التي يحبها الله؛ لأن المسلمين بعملهم هذا يرجون من الله ما لا يرجو غيرهم، ولأن الزكاة طهرة وحصن للمال.
والإحسان إلى الناس في بذل المعروف جزءٌ من أصل الاعتقاد، وبعض من تكاليف المحبة بين المؤمنين في سخاء نفسي، وبذل مالي؛ لتمكين رابطة الأخوَّة في الدين، وإبراز سمة من سمات البيئة الإسلامية؛ إذ تتمكن الرابطة الاجتماعية، وتبرز سمات الإسلام الخالية من المطامع والماديات، وإبراز الصفات الحميدة.. كما قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وهكذا، فلو سرنا مع تعاليم الإسلام وشرائعه فإننا سوف نجدها جميعها تهتم بالنفس وتزكيتها، وتهذيب طباعها، وتقويم ما فيها من اعوجاج؛ لتدفعها للخير امتثالاً واستجابة، وكبح جماحها عن الشر انتهاء واستسلامًا.
وللحديث صلة - إن شاء الله - في العدد القادم.