المثنى حمزة حجي
شيرين عبادي امرأة إيرانية شجاعة سجلت تجربتها في كتاب، شرحت فيه قصة كفاحها، حيث عاشت بداية حياتها في الأيام الأخيرة لنظام الشاه، وتخرّجت من كلية الحقوق في طهران، وبدأت عملها في السلك القضائي، كانت تلك أيام صعبة على المجتمع الإيراني، وهي إبان التشنجات السياسية والاجتماعية والظروف التي سبقت انفجار الثورة الإيرانية. قصتها تعلمنا أنه من وسط الظروف القاسية ينبت اليأس والإحباط، لكن يبزغ أيضاً الأمل بالتغيير، ومن وسط التحديات تبرز الفرص، وفي ظل المصاعب التي تواجهها الأمم يتميز الشجعان من أهل المبادرات، ويظهر كذلك الخونة والجبناء.
يشرح الكتاب هذه الفترة التي ظهر فيها نظام الشاه ورجاله في حالة مهلهلة من اليأس المصحوب بمحاولات إصلاح شكلي، وظهر فيها الوجه العابس لآية الله الخميني الذي كان الشاه قد طرده من إيران فذهب واستقر في العراق ثم في فرنسا، ظل الخميني يحرض على الثورة ويخطب ود الشعب بالوعود التي جعلته يبدو أمام الشعب بمظهر المخلص فتعهد بالديموقراطية وحقوق الإنسان وتوزيع المساكن والطعام واحتياجات الناس الأساسية وحرك المظلومية الدينية مذكراً الناس بتضحيات الحسين في مقارعة الطغيان والاستكبار.
تروي شيرين عبادي تفاعل المجتمع اليائس مع الثورة وانقيادهم كالخراف إلى المذبح واتباعهم أوامر الخميني بتصعيد النشاط الثوري ليس فقط بين السياسيين بل بين أوساط المجتمع العادي كالصعود إلى أسطح المنازل والتكبير بصوت مرتفع ثم تفاعلها هي شخصيا مع أوامر الخميني للشعب بمنع وزراء الشاه من دخول مكاتبهم وكيف وقفت هي مع زملائها في العمل لمنع وزير العدل الإيراني من دخول مكتبه فنظر إليها أحد القضاة مذهولاً وقال «أنتِ بالذات كيف تدافعين عمن سيطردك من وظيفتك إذا انتصرت ثورته؟» كان القاضي على حق فقد قامت لجان التطهير التي انتشرت في الجهات الحكومية بعد الثورة لتطهير الجهاز الحكومي بإحالة القاضية شيرين من منصبها كقاضية إلى منصب إداري بسيط ثم تخلت في النهاية عن وظيفتها.
بعد الكثير من الصدامات في الشارع بين الجيش والثوار خرج الشاه من البلاد وعاد الخميني ليبدأ عهد الرعب من البلاد الذي عمّ الجميع، أما الضرر المباشر لعائلاتها فكان إعدام شقيق زوجها (فؤاد) وكان في الرابعة والعشرين من عمره الذي كان مسجوناً بحكم محكمة الثورة لمدة عشرين عاماً بتهمة بيع صحف، والسبب المعلن لإعدامه وآلاف غيره هو أنهم وجدوا أسماءهم لدى مقاتلين من حزب مجاهدي خلق كانوا قد سقطوا قتلى أو جرحى في معركة مع الحرس الثوري وصدرت أحكام الإعدام بعد محاكمة هزلية لكل منهم استغرقت بضع دقائق فقط.
وفاة الخميني وتسلم السلطة لشخص جديد لم يحقق آمال الإيرانيين بالتغيير فقامت السلطة الجديدة بالمزيد من التضييق خوفاً من انفلات الأوضاع، كما أن حملة الرعب لم تتوقف على أجهزة السلطة الأمنية النظامية بل كذلك على جهاز شرطة آخر يسمى (الكُمِيتِة) وهي مجموعات من المتطرفين يشبهون المليشيا غير النظامية الذين يملكون صلاحيات كبيرة للسيطرة الاجتماعية وإبقاء المجتمع في حالة رعب دائم من ضمنها كثير من الحالات كإلقاء الكميتة القبض على مجموعة من النساء والرجال في سيارة وإجبار الرجال على الاعتراف بعلاقة جنسية كاذبة مع النساء، وقام قاض يرتدي ملابس قذرة بإعطاء المرأة وعداً بإطلاق سبيلها إذا وافقت الزواج منه زواج متعة مؤقت، وحالة أخرى هي وقوع فتاة كردية صغيرة ضحية اغتصاب ثم قتل وحكمت المحكمة بدفع تعويض على المتهمين، وحيث إن التعويض الإجمالي كبير في مقابل دية الفتاة حسب النظام الإيراني أجبرت المحكمة والد الطفلة على رد الفائض مما اضطره لبيع منزله البائس لتوفير الأموال وهو نموذج من آلاف من نماذج مهزلة النظام القضائي في الجمهورية الإسلامية.
خلال هذا الوقت حيث توسعت الاغتيالات لتحصد المثقفين والفنانين والسياسيين كرئيس حزب (ملتي إيران) الذي قُتل طعناً حين قفز عليه أحد ضيوف إحدى الندوات التي كان يحاضر خلالها ثم طُعنت بعده زوجته.
الاغتيال يكون إما فردياً أو جماعياً عندما قفز سائق حافلة كانت تقل شاعرة إيرانية اسمها (فيريشته ساري) ومجموعة من الشعراء والأدباء وهم في طريقهم لندوات ثقافية في دولة مجاورة بعد أن وجه الحافلة باتجاه الهاوية لكنهم نجوا بأعجوبة بعد تمكن أحدهم من إيقاف الحافلة قبل السقوط المريع، وكان الهدف أن يظهر الأمر كأنه حادث سيارة عادي.
قامت الحكومة الإسلامية بمصادرة ممتلكات الشاه السابق وعائلته كافة، وآلاف من المعارضين، ووضعتها تحت إدارة مؤسسة المستضعفين، وعيّن الخميني سائقه الشخصي ليرأس أكبر مؤسسة اقتصادية في البلاد شملت أكثر من سبعمائة شركة لتصنيع السيارات والأدوية واستيراد السيارات والمواد الغذائية والفنادق.
أما في مجال التعليم فقد أغلق (مجلس الثورة الثقافية) مائتي جامعة وكلية وطُهرت الكتب من الأفكار التي لا تتناسب مع فكر الثورة وطُرد أربعون ألف معلم.
في الوقت الذي اجتاح الفقر المجتمع الإيراني بحيث أصبح على كثير من الإيرانيين العمل في وظيفتين أو ثلاث لتدبير لقمة العيش، وانتشر بشكل مواز مستويات غير مسبوقة من الفساد، فأكثر الإيرانيين لا يستطيعوا إتمام أي معاملة أو إجراء حكومي إلا بدفع مبالغ هائلة رشوة للمحسوبين، وظهرت الفلل الفاخرة التي يسكنها رجال النظام في شمال طهران ويقودون سيارات فاخرة أجنبية تسير جنباً إلى جنب مع السيارات الإيرانية المهلهلة التي يقودها عامة الشعب وسيطر رجال الدين على رخص الاستيراد والصيرفة والموارد الطبيعية، واستولوا بوضع اليد على آلاف الشقق التي تركها أصحابها للهجرة للخارج، وعندما سألوا الخميني عن البنية التحتية الاقتصادية قال (ولكن شعبنا ثار من أجل الإسلام وليس من أجل البنية التحتية الاقتصادية، ما هي البنية التحتية الاقتصادية على أي حال؟ الحمير والإبل تحتاج إلى التبن، هذه هي البنية التحتية الاقتصادية).
المحسوبية لم تتوقف على الوظائف بل طاولت حتى فرص التعليم العالي فقد اضطرت القاضية لإرسال ابنتها لاستكمال الدراسات العليا خارج إيران لأنه لم يكن من الممكن قبول ابنتها في جامعة إيرانية حيث تخصص فرص الدراسات العليا لأبناء المنتسبين للنظام كوسيلة لاحتكار الوظائف المهمة في الدولة مستقبلاً للمتعلمين من قبل الأوساط القريبة من نظام الملالي وبسبب تفاقم الظروف الأمنية والسياسية وتعذر فرص العمل والمحسوبية تعتبر إيران من أكثر دول العالم في هجرة العقول المتعلمة للخارج.
لم تتحمل حكومة سيد خاتمي الإصلاحية طويلاً نبرة الشكاوى والمطالبات المرتفعة في الصحافة وخشوا من تفاقم الوضع وحدوث زلزال يؤدي إلى سقوط النظام فسارعت بعد فترة بإغلاق الصحف مثل صحيفة سلام المستقلة التي اتهموها بتجاوز الخطوط الحمر مما دفع طلاب جامع طهران إلى التجمهر للاحتجاج في حرم الجامعة، مما أدى إلى دخول قوات البسيج، وهي ميليشيا غير نظامية، للجامعات وسحبوا الفتيات من شعورهن وحطموا الأبواب بأقدامهم وأحرقوا الغرف وسحقوا عظام الطلاب بالهراوات وألقوا بعضهم من شرفات عالية وأصيب طلاب بطلقات نارية توفي بعضهم بسببها، انتشرت الإضرابات في المدن والمحافظات لمدة خمسة أيام حدث خلالها هياج مدمر، لكن تمكنت شرطة النظام في النهاية من قمعها بقسوة بالغة ثم قامت المحكمة الإسلامية، كالعادة، بتبرئة جميع المتهمين بقتل الطلاب.
في النهاية سُجنت شيرين عبادي بسبب نشاطها الحقوقي والإنساني وخرجت من السجن الذي ظلت فيه لفترة مؤقتة لتحصل على جائزة نوبل للسلام، معلنة انتصار الحق على الباطل وانتصار الضحية التي حصلت على تقدير العالم على جلاديها من جلاوزة نظام طاغية فاسد يدعي أنه ظل الله في الأرض.