المثنى حمزة حجي
لم أندم كثيراً لأني لم أنشر مقالاً حول الانتخابات الإيرانية حين حدوثها أو قبل ذلك فلا يوجد فارق كبير أن تكتب عن الانتخابات الإيرانية قبل حدوثها أم بعد انتهائها، فهي أكثر انتخابات في العالم يمكن التنبؤ بنتائجها بسهولة نسبية.
المفهوم الأساسي للديموقراطية هي حكم الشعب، وهو قائم على الفكر السياسي السائد في الدول الغربية ويقتضي وجود عقد سياسي واجتماعي يعتبر أن الشعب هو مصدر السلطات وتؤدي الانتخابات بالضرورة إلى تداول السلطات بين التيارات السياسية المختلفة بل والمتناقضة اعتماداً على مخرجات العملية الانتخابية التي تعكس بالضرورة اتجاه الرأي العام وتوازن القوى بين الأحزاب وقدرتها على إقناع الناخب ببرنامجها وبطريقة تعاطيها مع احتياجات الأمة، أما عملية الانتخاب ذاتها بمستوياتها المختلفة فهي مجرد آلية لتطبيق هذا المفهوم.
الانتخابات في الدول الديموقراطية تشبه لعبة كرة القدم فهي تعتمد على كفاءة اللاعبين والفريق والحالة المعنوية وظروف اللعب وتتمتع دائماً باحتمال الربح والخسارة، وهو ما نلاحظه في الانتخابات الأمريكية مثلاً أما في إيران فهي تشبه لعبة الشطرنج وهي تعتمد ليس على إرادة الشعب، بل على احتياجات المرشد الأعلى والنظام السياسي في كل مرحلة حيث يتم تقديم أو تأخير المرشحين حسب السياسة التي تتطلبها المرحلة، أما إرادة الشعب فتؤثر فقط تأثيراً تكتيكياً من بين الأدوات الإستراتيجية التي يقبلها النظام الحاكم ومرشده الأعلى بالتالي في جمهورية الملالي الإسلامية يبدو أن المفهوم يختلف فالانتخابات بكل مستوياتها سواء انتخابات رئيس الجمهورية أو مجلس الشورى أو مجلس خبراء القيادة تخضع لفهم مقلوب تماماً حيث تم التركيز على المظهر فقط، وهو العملية الانتخابية بعد أن أفرغت من محتواها لتصبح نوعاً من التقية السياسية التي يستخدمها نظام الملالي لتجميل وجهه المستبد بالتالي تعتبر ديموقراطية تنفيس وليس ديموقراطية تغيير، ويعتبر أي مراقب صادق أن الاستبداد الرسمي المعلن أهون من ديموقراطية مُدارة يضطر الشعب من خلالها إلى الاختيار بين من هو متطرف وبين من يأملون أن يكون أقل تطرفاً وكلاهما من نفس التيار.
يتم التأثير على الانتخابات بوسائل مباشرة وغير مباشرة، فالوسائل غير المباشرة تتم عبر الوعظ والشعارات ونظام التعليم وفتاوى المشايخ وبكائيات المآتم والحسينيات وهي عملية غسل مخ تبدأ منذ الطفولة للشعب وتستمر مدى الحياة، أما وسائل التأثير المباشر وهي الأخطر فتتم على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: يبدأ الأمر بتصفية واغتيال البدائل من القوى الشعبية التي من الممكن أن توفر بديلاً حقيقياً يهدد نتائج رقعة الشطرنج الانتخابية كما حدث لآلاف من أعضاء منظمة مجاهدي خلق داخل إيران أو حتى خارجها ومثال آخر لذلك داريوش فوروهار رئيس حزب الأمة الإيرانية الذي يعد امتداداً لحزب رئيس الوزراء السابق محمد مصدق الرجل ذي الشعبية الهائلة في الشارع والذي خُلع وأُعدم أيام حكم الشاه رغم أن داريوش أيد ثورة الملالي وأصبح أول وزير عمل في الجمهورية الإسلامية، قُتل داريوش وزوجته بارفانة طعناً بالسكاكين وحين دارت الشبهات حول سعيد إمامي نائب وزير الاستخبارات وجد هو الآخر ميتاً وزُعم أنه انتحر في السجن عبر شرب زجاجة مرهم لإزالة الشعر.
التصفيات بالقتل التي بدأت برجال الشاه بما فيهم المخلصون الأكفاء مثل أمير عباس هويدا الذي رفض الهروب من البلاد لثقته في براءته ووصلت إلى قتل أو أحكام بإعدام أو حجز حرية ضد رجالات الثورة من الملالي الذين أيدوا الثورة الإسلامية لكنهم اعترضوا على ولاية الفقيه بنسختها الخمينية المتطرفة انتهوا بالإقصاء والمحاصرة مثل آية الله شريعة مداري وآية الله حسين منتظري وآخرين بالعشرات والتصفيات سواء بالقتل أو الاستبعاد سياسة مستمرة كذلك حكم الرعب الذي تمارسه أجهزة السلطة المختلفة.
المستوى الثاني: وذلك بأن يتم هندسة القوانين والعملية الانتخابية بحيث تبدأ السلطات وتنتهي في يد المرشد الأعلى بشكل كامل وفق شروط لا تسمح بتمكين أي تيار أو شخص مختلف فكرياً بأي شكل والمرشد يملك السلطة الدينية والزمنية وتعطيه المادة 110 من الدستور الإيراني الذي تم إعداده من قبل الملالي، بخلاف تعهد الخميني مفجر الثورة بأن يُعد الدستور من قبل لجنة تأسيسية منتخبة، صلاحيات هائلة تبدأ بتحديد السياسات العامة للدولة والنظام والإشراف على تنفيذ هذه السياسات، وكذلك تعيين وعزل نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور، ورئيس السلطة القضائية، وقادة القوات المسلحة، ورؤساء المؤسسات الإعلامية وصلاحية إعلان الحرب وقبول اتفاقيات السلام وكذلك الموافقة على تنصيب رئيس الجمهورية المنتخب وعزله أيضاً.
أما مجلس صيانة الدستور وأعضائه الـ 12 وجميعهم غير منتخبين فيعين المرشد نصف أعضائه من الفقهاء التابعين له والنصف الآخر يعينهم رئيس السلطة القضائية (وهو الذي تم تعيينه من قبل المرشد أيضاً)، وأخطر مهمة لمجلس صيانة الدستور هي قبول أو رفض المرشحين لانتخابات رئاسة الجمهورية ومجلس الخبراء ومجلس الشورى أو ( البرلمان) حيث يضع شروطاً قاسية لقبول المرشحين.
في الأساس لا يمكن لأحد ترشيح نفسه إلا إذا كان من التيار الإسلامي المحافظ بالتالي يتم استبعاد كل التيارات الوطنية والثقافية الليبرالية وممثلي التيارات السياسية والمجتمع المدني وحتى لو كان المرشح من التيار الإسلامي يجب أن يكون من التيار الثوري الذي يطالب بالثورة الدائمة وكذلك مفهوم تصدير الثورة ويتم إفشال أي مرشح مختلف وهو ما حدث للرئيس السابق سيد محمد خاتمي الذي واجه معارضة كبيرة ساهمت في إفشال جهوده عندما حاول الخروج من الحالة الثورية إلى الدولة المستقرة وعند انتخاب الرئيس السابق المتشدد محمود أحمدي نجاد تم استبعاد آلاف المرشحين والموافقة على ستة مرشحين فقط لدخول الانتخابات من ضمنهم أحمدي نجاد، وقبل هذا وذاك لا بد أن يكون من المؤمنين والمؤيدين لمبدأ ولاية الفقيه بمعنى أنه يجب أن يوافق - مقدماً - على السلطات الدينية والزمنية شبه المطلقة للمرشد بما فيها تقرير السياسات العامة وقيادة الإعلام والقوات المسلحة وقرارات الحرب والسلام وتعيين مجلس الدستور والسلطة القضائية.
أما مجلس خبراء القيادة فمن أخطر سلطاته المراقبة على أعمال المرشد واختيار مرشد جديد إذا فرغ المنصب وأعضاؤه الـ 88 يتم انتخابهم وفق القواعد الدستورية التي أقرها المرشد وهم أصلاً لم يصلوا إلى المنصب إلا بعد قبول ترشيحهم من قبل أعضاء مجلس صيانة الدستور الذي ذكرنا أن من الذي يعينهم هو المرشد أو رئيس السلطة القضائية الذي يعينه المرشد. وقبل أن يصل ملف المرشح إلى مجلس صيانة الدستور للموافقة عليه لا بد من الحصول على موافقة أربع جهات وهي السلطة القضائية وجهاز الأمن ووزارة المخابرات ودائرة الأحوال المدنية وتعيين قادتها خاضعة بدورها لسلطة المرشد.
أما المستوى الثالث هو ترجيح الأصوات: هذه المرحلة تعتمد على امتلاك المرشد الأعلى لسلاح سري وهو أصوات ملايين من قوات التعبئة أو الباسيج وهم الطبقات الأكثر جهلاً وتخلفاً في المجتمع الإيراني والأكثر إيماناً بقدسية الإمام المعصوم وصوابية قراره والأكثر تصديقاً لمقولات إن الإمام مرشد الثورة هو وكيل صاحب الزمان وظله على الأرض وأن الراد عليه كالراد على إمام آخر الزمان، هؤلاء يبلغ عددهم 3 ملايين شخص على الأقل هم رعاع وحرافيش النظام لكنهم مع أقربائهم يملكون أصواتاً انتخابية قدّرها البعض بـ 10 ملايين صوت وفي العادة يصوتون لصالح المرشحين الذين يُسرب النظام لهم أنهم الأكثر تمثيلاً لإرادة المرشد الأعلى وهو ما يكفي لإعطاء أصواتهم لهؤلاء المرشحين بدون أي تفكير أو قناعة من قبلهم وهو ما يكفي لتثقيل كفة أي مرشح على حساب باقي المنافسين.
قرب نهاية الحرب الإيرانية - العراقية قررت القيادة الإيرانية تقديم وجه معتدل وهو علي أكبر هاشمي رافسنجاني للفوز بانتخابات الرئاسة لامتصاص الغضب الشعبي المتنامي من الكارثة البشرية والاقتصادية التي سببتها الحرب ثم قدمت سيد خاتمي وهو شخصية أنيقة إصلاحية مثقفة كان اختياره ليس متوقعاً كونه شخصية ثقافية معروفة أكثر من كونه شخصية سياسية، وحتى عند فترة حكم خاتمي كان النظام المخابراتي يزداد توسعاً واستبداداً وإثارة للاضطرابات لإفشال مساعي خاتمي لتوسيع الحريات بما فيها حرية انتقاد النظام والعمل على تقليل قبضة النظام الثوري على الدولة والشعب وهو ما حدث فعلاً.
قدم النظام بعد ذلك المتشدد أحمدي نجاد الذي كان مطلوباً منه الاستفادة من التورط الأمريكي في أفغانستان والعراق والقيام بسياسة هجومية لتوسيع مكانة إيران في المنطقة وتوسعة المليشيات التابعة لإيران في المنطقة والتوسع الكبير والسريع في البرنامج النووي، وبعد تعرض إيران لعقوبات خانقة وصلت لمرحلة اقتربت من إشعال الشارع كان المطلوب تقديم شخصية إصلاحية أخرى تقدم ابتسامة مرحلية عريضة للعالم وتستفيد من سياسية الرئيس أوباما التصالحية ورغبته في ترك إرث سياسي سلمي عبر توقيع اتفاق نووي حتى لو كان مثيراً للجدل ورفع العقوبات عن إيران وهو ما تريده الجمهورية الإسلامية فقامت بتقديم الرئيس حسن روحاني وإعطائه الأصوات الترجيحية لتحقيق هذا الهدف وستستمر السياسة بتقديم المزيد من الوجوه الإصلاحية في مجلس الخبراء لإظهار وجه معتدل أمام العالم لاستكمال إعادة بناء الاقتصاد وتعويض الخسائر والتقاط الأنفاس مع عدم تقديم تنازلات مهمة في السياسة الإقليمية.