المثنى حمزة حجي
مرَّت كثير من الأمم بأحداث حالكة في تاريخها، لكن قليل من تلك الأحداث تركت بصمات واضحة في الذاكرة الجمعية لشعب ما، خاصة تلك التي دفع خلالها الشعب أثماناً باهظة، وتعرض لمهالك ودمار يفوق تصور العقل البشري، وترك آثاراً على ذاكرتها التاريخية، ومن ذلك ما تعرضت له سوريا في القرن الرابع عشر أثناء الغزو التتري على يد الأمير الأوزبكي تيمور محمد ترغاي المعروف بـ (تيمورلنك) الذي كتب صفحات سوداء في تاريخ سوريا من مذابح ودمار وتشريد لمئات آلاف من البشر، اعتقد بعدها السوريون أنهم مروا بأسوأ مرحلة في تاريخهم حتى جاءهم بشار الأسد.
أحد أهم الدروس التي يتعلمها المتابع للأحداث والمآسي التي لا تنتهي في الشرق الأوسط هو أن بعضا من أكثر السيناريوهات تشاؤماً هي في الغالب التي تتحقق بالتالي، بعد أن بدأت أحداث الثورة السورية ببضعة أشهر كان واضحاً لي أن اتجاه الثورة في سوريا سيكون مختلفاً تماماً عن اتجاه الثورات في مصر وتونس، والسبب أن النظام في سوريا مختلف عن النظام في مصر وتونس، حيث النظام في هاتين الدولتين كان يحكمه فرد يستعين بقوة مسلحة سوف تتخلى عنه حتماً في حالة تصاعد أحداث العنف، فمصر وتونس تملكان جيوشاً وطنية لن تقبل بارتكاب مذبحة للأبرياء من الشعب، أما الوضع بالنسبة لسوريا فهو حكم أقلية طائفية لن تقبل التنازل عن الحكم لأي سبب، وبالتالي لو تصاعد العنف فسيؤدي حتماً إلى مذبحة وهو ما حدث فعلا للأسف.
بدأت أحداث الثورة السورية بشكل سلمي كامتداد للربيع العربي - الذي تحول فيما بعد إلى ما يشبه الشتاء النووي - وكانت الثورة في سوريا متوقعة، فالنظام السوري هو أسوأ الأنظمة على وجه الأرض بعد كوريا الشمالية، إيران وأكثرها نزعة بوليسية ودموية، استقبل النظام ذاته الثورة بذهول فلم يتوقع أن يستيقظ الشعب ويطالب بحقوقه رغم عقود من القتل والتشريد، وبدا النظام قوياً بما يكفي لفض الانتفاضة بسرعة لكن بعد عدة أشهر كان واضحاً أن الانتفاضة تملك بعداً اجتماعياً وجغرافياً انتشرت أفقياً وعمودياً في طبقات متنوعة ليس من الممكن اجتثاثها.
أخطأ بشار الاعتقاد بأن هذه الثورة ليست سوى إعادة إنتاج للثورة الماضية في ثمانينيات القرن الماضي والتي شارك فيها جماعة إسلامية، واعتقد أنه يستطيع إنهاءها بعملية عسكرية مكثفة وسريعة وبقدر كبير من العنف، وحدث خلالها حالات اختطاف واعتقال وتعذيب تتجاوز العقل البشري كاقتلاع حناجر لمنشدي الثورة وسلخ جلود أطفال أحياء وذبح أطفال بالسكاكين واقتلاع أعينهم وقتل آلاف بالرشاشات في الشوارع؛ مما أدَّى إلى صدمة هائلة في الرأي العام السوري والإقليمي والدولي؛ دفع فئات من الشعب لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، وانشقت وحدات من الجيش النظامي لتأمين حماية الشعب ضد ما بدا انه حرب إبادة.
تابعنا حركة التمرد المسلح التي قامت بها جماعات متشددة في دولة الجزائر في التسعينات من القرن الماضي والتي استطاعت الحكومة الجزائرية إنهاءها باستعمال الجيش بشكل ذكي وبأقل حد من السلاح الثقيل، استأصل خلالها الحركات المسلحة المتطرفة لكن في نفس الوقت حافظ إلى حد كبير على البنية التحتية للدولة ووحدة نسيج المجتمع فكسب شرعية كمنقذ للشعب والدولة.
أما بالنسبة للثورة السورية التي لم تكن ثورة طائفية ولا حتى دينية على الطلاق بل شعبية مدنية عامة، لكن بشار الأسد لجأ فوراً لإشعال مواجهة مسلحة ثم تحويلها عمداً إلى حرب طائفية ونشر شعار (المسيحي على بيروت والعلوي على التابوت) ما يعني ان الثوار سيقتلون العلويين ويطردوا المسيحيين من البلد، وهي كذبة حقيرة تهدف إلى استنهاض وتوحيد الطائفة العلوية والأقليات الأخرى كالأرمن والدروز والأكراد والمسيحيين وغيرهم ليقيم تحالفا بين الأقليات ضد أغلبية الشعب المطالبة بحقوقه واستخدامها عسكرياً على الأرض ودعائياً أمام الخارج خاصة الغرب، مقدماً نفسه حامياً لهذه الأقليات، أما أمام المشرق العربي والإسلامي فقدم نفسه كضحية لحرب كونية من العالم الاستعماري والصهيونية العالمية لإسقاطه بسبب دوره المقاوم لإسرائيل ضمن محور الممانعة، مع أن الحقيقة هي أن السبب الوحيد لإبقائه في الحكم من قبل القوى الكبرى هو رغبة إسرائيل في بقائه، بالتالي فالمؤامرة الكونية هي في الحقيقة لصالحه وضد الثورة السورية وليس العكس كما يدعي.
أشار بشار الأسد في خطاباته إلى ما سماه (الحاضنة الشعبية للثورة) وقصد بالطبع بذلك الطائفة السنية التي تمثل 80 في المئة من الشعب وقرر تدمير البنية التحتية للمجتمع باستخدام قوة نارية عشوائية ضد التجمعات السكانية، القصد الواضح منها ليس هزيمة الجماعات الثورية المسلحة كما ادعى بل تحطيم معنويات وإرادة الطائفة السنية بشكل مروع، بل وتحطيم البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية للمجتمع ومعها أي حلم للثورة أو حتى أي مطالبة حالية أو مستقبلية تتمكن فيها القاعدة الشعبية من ممارسة حقها الطبيعي في تولي القيادة في بلادها وانتخاب ممثليها، وقرر بشار الأسد (الاستعانة بالجمهور) فاستقدم عشرات الآلاف من المليشيات الطائفية من لبنان وإيران وباكستان وأفغانستان وأفريقيا تحت مسمي حماية المراقد المقدسة (حتى لا تسبى زينب مرتين)، ثم انتشر جيش النظام والمليشيات في حرب باشتراك قوتين متناقضتين في المضمون يصعب تصور اندماجهما وبينهما علاقة ديالكتيكية في الأوضاع الطبيعية، أي ما بين ديماغوجيا النظام البعثي الاشتراكي والمليشيات المهدوية المنتمية لعالم الميثولوجيا في كل البلاد سببا معاً الدمار الشامل تحت شعار (الأسد أو نحرق البلد)، وهو ما نفذاه عملياً.
من الأمثلة التاريخية القريبة زمنياً والمشابهة هو ما ارتكبته جماعة الخمير الحمر في كمبوديا عندما استولت على السلطة في العاصمة بنوم بنه عام 1975 ثم دفعت بملايين من السكان للعمل في الحقول، ثم قامت بإعدام أعداد هائلة بحجة تطهير المجتمع من الفساد ثم دفنهم فيما عرف بـ (حقول القتل)، رغم أن كثيرا من قادة الخمير كانوا خريجي جامعات فرنسية إلا أن التعليم الغربي لم يضف لهم أي قيمة حضارية أو إِنسانية، بل إن وسائل التعذيب والقتل كانت تتم بالفؤوس وأدوات بدائية مروعة لم تختلف كثيرا عن طرق القتل التي استخدمها نظام بشار الأسد الذي زاد عليهم باستخدام الأسلحة الكيميائية كغاز الأعصاب الذي ثبت استخدامه من قبل النظام ضد مناطق مدنية وهي جريمة حرب حسب القانون الدولي، وحكم الخمير الحمر بزعامة پول پوت الدولة سنوات حتى أطاحت بهم القوات الفيتنامية عام 1979 ومات پول پوت عام 1998 وهو تحت الإقامة الجبرية. رغم ان القتل في كمبوديا لم يكن لدوافع طائفية لكن القدرة على الإبادة من قبل نظام لشعبه هي القاسم المشترك.
دفع شعب كمبوديا 3 ملايين قتيل أو حوالي ثلث تعداد الشعب خلال فترة حكم الخمير الحمر ولهذا أغلب سكان كمبوديا حتى فترة وجيزة كانوا تحت سن الـ 30 سنة بسبب انقراض جيل كامل، هذه الكارثة نتيجة ليست بعيدة عن شعب سوريا بإبادة جيل كامل أو أكثر من 300 ألف قتيل واختفاء عشرات الآلاف، على الأغلب لن يعودوا، وتدمير 70 في المئة من المدن والقرى وتهجير أكثر من نصف شعب البلد وهي حرب إبادة حقيقية كارثة ديموغرافية بكل المقاييس سيتذكرها السوريون لمئات من السنين وهو بالضبط ما يريده بشار الأسد والعصابات الطائفية الحليفة التي تعمل بإيعاز وتمويل من إيران، ولجأ بشار الأسد لتوطين آلاف الشيعة من العراق وأفغانستان وباكستان بهدف تغيير التركيبة الديموغرافية للدولة.
النموذج الآخر الأقرب تاريخياً هو ما حدث في دولة رواندا الأفريقية حيث قام أفراد من الجبهة الوطنية الراوندية التي تمثل قبيلة التوتسي وهي الأقلية التي كانت في السابق الطبقة الحاكمة في رواندا بارتكاب مذبحة مروعة في عام 1994 ذهب ضحيتها 600 - 800 ألف من أبناء قبيلة الهوتو شركائهم في الوطن الذين مثلوا الأغلبية السكانية، وذلك لأجل خلافات وأحقاد قبلية وصراعات عسكرية متتالية سببها إصرار الأقلية على استعادة السلطة بعد أن أخرجتهم منها الأغلبية في معارك سابقة، هذا التناحر القبلي أنتج صراعاً سياسياً ثم حرب إبادة جماعية.
هذا النوع من التدمير المتعمد لشعب يحدث في حالات الحروب الصفرية التي تنبع في الغالب من أحقاد فئوية قبلية، قومية أو دينية متراكمة وأسوأ أنواع الأحقاد هي الأحقاد الدينية والطائفية.