المثنى حمزة حجي
خلال أول زيارة لى إلى تركيا في التسعينيات من القرن الماضي وقفت على منطقة مرتفعة في مقابل مشهد بانورامي لمدينة اسطنبول أمام قصر ضولما باهتشه العثماني الشهير الذي شهد آخرخلفاء العثمانيين، وبنظرة على القصر والمدينة وممارسة هوايتي في الجلوس في المقاهي الشعبية وقراءة المشهد الاجتماعي ووجوه الناس وثقافتهم كان واضحا أمامي حالة الفصام التي عاشتها تركيا لعقود طويلة بين جذورها التاريخية ومسيرتها التالية من أقوى صور الفِصام الثقافي هو الفارق المدهش ما بين تصميم البناء والديكور بين القصور الأشهر في اسطنبول وهم توب كابي الذي بناه السلطان محمد الفاتح في القرن الخامس عشر وبين القصور الأخرى التي تم بناؤها في القرون اللاحقة أشهرها قصر ضولما باهتشه الذي بناه السلطان عبدالمجيد في القرن التاسع عشر.
الفارق هو رغم أن أوائل هذه الفترة تميزت أنها فترة قوة عثمانية الا أن بوادر الهزيمة أمام الغرب تجلت، في بداياتها، في هزيمة ثقافية ظهرت في أن القصر الاول يحمل طابع بناء تركي عثماني خالص، بينما القصور التالي بناؤها لم تكن عثمانية على الإطلاق فتصميم البناء والديكور اوروبي غربي والتركي الوحيد فيه هو السكان ما يعني انبهار العثمانيين بالثقافة الغربية واعتراف بعدم إمكان الدولة العثمانية مجاراة أوروبا ثقافيا الأمر الذي كان سينتج تحولا طبيعيا حين تنتقل الثقافة من مناطق الضغط الاوروبي المرتفع الى مناطق الضغط العثماني المنخفض مما يحدث تغيرا في المزاج العام الذي لن يكون قاصرا على نخبة السلطنة بل سيصل حتماً الى الشعب مما يفسر صعودا قويا لحركة تركيا الفتاة وغيرها من الحركات العلمانية النزعة التي تعزو فشل تركيا العثمانية الى الثقافة الاسلامية وارتباط تركيا بالعالم الاسلامي، وما تلا ذلك من صراع كبير مع التراث العثماني والتركي الذي أداره مصطفى كمال اتاتورك وخلفاؤه بتأييد قطاعات واسعة من الشعب تخللته فترات صعود وهبوط للتيار الإسلامي حتى جاء اردوجان.
حالة الفصام بين واقع تركيا في زمن أتاتوك وماضيها لم يخترعها أتاتوك ذاته بل نتيجة تراكمات وأخطاء تاريخية أدخلت دولة الخلافة العثمانية في مرحلة الموت السريري بحيث يمكن القول إن اتاتورك لم يلغ النظام الاسلامي بقدر ما أطلق الرصاص على حصان كان في النزع الأخير.
خلال هذه الفترة يستطيع أي زائر أن يلاحظ فقدان الهوية التي يعاني منها شعب يحلم بالانضمام للنادي الاوروبي لكنه يعلم ان اوروبا التي قبلت دول شرق أوروبا ودول البلطيق في النادي الاوروبي في فترة وجيزة رفضت انضمام تركيا التي تقف على الباب منذ عقود لم يشفع لها تطرفها ضد الإسلام.
هذا الفصام الثقافي أدى الى تغيرات جذرية وصلت لمستوى تغيير اللغة بالاستغناء عن الأبجدية العربية مما جعل المواطن التركي في هذه الفترة غير قادر على قراءة ماهو مكتوب على جدران قصوره ومساجده منذ 80 سنة، بينما يستطيع جاره اليوناني قراءة الكتابات على معابده ذات الـ3000 سنة مايجعل المواطن اليوناني يحمل ثقافة ممتدة ومستمرة من الماضي بينما يبدو التركي وكأنه غريب في بلاد غريبة.
لكن محاولات المجتمع التركي استعادة الهوية الاسلامية التي ظلت كامنة تحاول إخراج رأسها على السطح تكررت بين الفترة والاخرى فقد شهدت هذه الهوية عودة روح إسلامية تجلت في انتصار أحزاب اعتمدت على مخاطبة الشارع الاسلامي منذ عام 1950 عند انتصار عدنان مندريس في الانتخابات وأعاد الأذان باللغة العربية وبعض المظاهر التي تحاول استيعاب التيار الاسلامي، رغم ان مندريس ذاته لم يكن إسلاميا، فقد أدخل تركيا في حلف الناتو وتحالف بشكل موسع مع الغرب لكن هذا لم يشفع له فقام الجيش بانقلاب بقيادة الجنرال جمال جورسيل عام 1960وتم إعدام مندريس ورفاقه بتهمة إعادة الدولة الدينية
لم يكن التيار الاسلامي سببا مباشرا في انقلاب الجيش عام 1971 على حكومة سليمان ديميرل لكن الجيش أراد السيطرة على البلاد بسبب حالة الفوضى التي اجتاحتها خلال الستينيات حيث دخلت البلد مرحلة خطر بسبب الفشل الاقتصادي وتدهور شديد في الحالة الأمنية وصراع اليمين واليسار الذي وصل الى الشارع مما دفع الجيش للانقلاب لاستعادة الأمن.
لكن عاد وهج المد الإسلامي مرة اخرى في السبعينيات على يد نجم الدين أربكان الذي لعب لعبة القط والفأر مع الجيش منذ عام 1970حتى عام 2003 عبر تشكيل عدة أحزاب بأسماء مختلفة من حزب النظام الوطني عام 1971 ثم حزب السلامة الوطنية عام 1972 حيث حقق حضورا مهما على مستوى المشاركة في السلطة حتى الانقلاب الدموي في عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان ايفرين الذي حدث بعد بضعة أيام من قيادة اربكان لمظاهرات كبرى في المدن التركية ضد ضم اسرائيل للقدس، هذه المظاهرات أظهرت قوة الشارع الاسلامي حينذ تمت إقالة حكومة سليمان ديميرل وأودع اربكان السجن وتم حل حزب النظام العام.
وبعد خروجه من السجن أسس نجم الدين أربكان حزب الرفاه الاسلامي التوجه عام 1983 الذي أسقطه انقلاب 1997 الذي قاده الجنرال اسماعيل حقي قراداي وحل الحزب عام 1998 فعمل اربكان لتأسيس حزب جديد عبر احد اصدقائه باسم حزب الفضيلة عام 1998 ثم حزب السعادة عام 2003 وبعدها قام الجيش بتوجيه تهم له ثم إيداعه السجن وحل الحزب لتنتهي حياته السياسية.
محاولات الاسلاميين توالت حتى نجح رجب طيب اردوجان تلميذ اربكان وأحد أتباع ذات المدرسة النورسية في تشكيل حكومة تركية وتهميش الجيش في الحياة السياسية بل وشهدت الدولة التركية - التي كانت في وضع اقتصادي صعب- نهضة غير مسبوقة في النمو الاقتصادي أخرجتها من نادي المفلسين الى نادي الاقوياء في فترة قصيرة ليس اعتمادا على صادرات ريعية كالنفط بل عبر اقتصاد متعدد الموارد ذو قدرات صناعية وخدمية تعتمد على كفاءة العامل البشري مما يعطيه صفة الثبات والاستدامة ويعكس قدرات بشرية وإدارية وتخطيطية وتنفيذية وعلمية وتعليمية أثبتت جدارتها.
ولد اردوجان في حي فقير في اسطنبول وعمل بائع السميط ليكسب قوته وبدأ العمل السياسي في سن مبكرة وله تاريخ في التدين. بدأ اردوجان النجاح من بابه الواسع في منصب رئيس بلدية مدينة اسطنبول التي كانت شبه غارقة في الديون وخلال فترة وجيزة تمكن من وقف الاقتراض وحول الميزانية من عجز الى فائض استخدمه في تسديد ديون البلدية.
لا يستطيع أحد أن يتكهن بمستقبل التنافس القوي القائم في تركيا بين الإسلاميين والعلمانيين لذلك رحلة الذهاب الى اوربا كانت محفوفة بالمخاطر ورحلة العودة لا تبدو مفروشة بالزهور.
يعتمد اردوجان في رحلة العودة الى الجذور على إعادة الاعتبار للتراث الديني والتاريخي لتركيا واستعادة الهوية العثمانية واستخدامها كأداة لاستعادة مكانة تركيا في المنطقة عبر مد الجسور مع الشارع الاسلامي بالدرجة الاولى وكذلك كسب صداقة دول الجوار عبر علاقة تجارية مع إيران الا ان رحلة العودة اصطدمت كما هو متوقع بعدة عقبات شكلت عقدة كبرى دفعت تركيا الى تخفيف حدة الاندفاع هذه العقبات هي:-
اولاً: عقبات الداخل التركي
مازال الداخل التركي لديه كتلة سكانية كبيرة رافضة للهوية الاسلامية بسبب تراث العلمانية التي مثلها اتاتورك والرافضة لأي دور للإسلاميين في مستقبل البلد رغم تضاؤل هذا التيار الا انه مازال فاعلاً ويمثله:
1- التيار العلماني ويجمع أغلب التيار العلماني الكَمالي ومعظم الطائفة العلوية من ناحية اخرى التي ترى ان عودة الهوية السنية تهديد لها والطرفان الآن موحدان في حزب الشعب الجمهوري وهؤلاء حجتهم ان العامل الاسلامي سيضعف فرص دخول تركيا للسوق الاوروبية المشتركة كذلك خوفهم من ظاهرة الاسلام السياسي وسطوته على منظومة الحريات في تركيا.
بالرغم من النبرة الدينية واعتماد إيقاظ المشاعر الاسلامية الا ان اردوغان كان من الذكاء بحيث انه اكد بشكل دائم على عدم تغيير الدستور العلماني التركي لإضافة تطبيقات شرعية وهو إن حدث سيفتح باب نزاعات هائلة داخليا وسيؤدي الى صدامات كبيرة مع الداخل وحلفاء تركيا في حلف الأطلنطي.
2- القوميون الأكراد السنة الذين يشعرون أن طغيان العامل الديني السني سيجذب جزءا كبيرا من المواطنين الاكراد للبقاء ضمن الوحدة مع تركيا تحت شعار الوحدة الإسلامية ويضعف التيار الكردي القومي الذي يقتات على تصعيد النزاع القومي التركي الكردي كمبرر لتصعيد المظلومية الكردية كمبرر للانفصال عن تركيا وهؤلاء موجودون في حزب الشعوب الديموقراطية الكردي والتيارات الكردية المسلحة.
ثانياً: عقبات الخارج
لايبدو الخارج أكثر استعدادا لتقبل الدور التركي الجديد فأوروبا لا تريد حتما عودة تركيا الى الحاضنة الاسلامية بتراثها العثماني ورغبتها في جمع العالم الاسلامي وترغب في بقاء تركيا تلعب دور حارس البوابة الشرقية لأوروبا.
بعد عدة عقود من المباحثات بين تركيا والاتحاد الاوروبي تمكن المفاوضون من الطرفين من إغلاق فصل واحد من عشرات الفصول المطلوب الاتفاق عليها لإتمام انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي بالإضافة الى المواقف المتشددة من احزاب اليمين الاوروبي التي قالت صراحت إنها لن تسمح لتركيا بالانضمام للاتحاد بما في ذلك الحزب الحاكم في ألمانيا. هذا التصلب والمناورة الاوروبية سببت ردة فعل لدى الشارع التركي الذي انخفض نسبة داعمي الانضمام فيه لأوروبا الى 40% فقط بعد ان كانت اغلبية في الماضي.
كذلك يبدو مزاج الشارع السياسي العربي متحفظاً على العودة التركية خاصة إن كانت هذه العودة من بوابة الجماعات الدينية الذي تتخوف منها النخب العربية بسبب طموحاتها السلطوية ومنظومة الولاءات العابرة للحدود الوطنية التي تمثل تحديا كبيرا للمشاعر الوطنية.
الا ان العودة التركية الى المنطقة بقوة ليست منبثقة من الطموحات التركية فقط بل بدافع التطورات الجيوسياسية الخطيرة التي تتمثل في التمدد الصفوي الذي سيفتح بابا حتميا للعودة التركية كقوة توازن ضد النفوذ الايراني وبموافقة وتأييد بعض دول المنطقة وما سمعناه من تحالفات متعددة الاوجه الا بداية لهذه العودة ومن البوابة العربية الكبرى هذه المرة.