المثنى حمزة حجي
لا تقوم العلاقات بين الدول فقط على العواطف أو الشعارات، بل على شبكة من المصالح والمبادئ المشتركة التي ينبغي تعريفها تعريفاً واضحاً قبل تحديد أنماط العلاقات ومداها وتحديد نقاط وحدود الاختلاف وما يُعدُّ مقبولا أو مرفوضا من أي طرف، فلنعترف بأن
هناك قدرا كبيرا من الأخوية بين السعودية ولبنان وهي السبب الأساسي للمساعدات السخية التي تقدمها السعودية لأشقائها اللبنانيين، ولكن لنعترف أيضاً بأن السعودية ليست جهة خيرية ولا مال سائب تستطيع أي جهة أن تغرف منه صباحاً ثم تشتمنا ظهراً وتتآمر علينا مساءً، لبنان بلد نحبه كثيراً ونقدر شعبه اللطيف الموهوب لكن ليس لدرجة أن يعتقد أحد هناك أننا دولة بدون خيارات أو أن لدينا قابلية للسكوت على الشتائم والمؤامرات.
استثمرت السعودية رأسمال سياسي واقتصادي هائل في لبنان منذ عقود طويلة، وأنشأت علاقات قوية مع التيارات والعائلات السياسية اللبنانية المتعددة وعملت ما تستطيع لمساعدة لبنان خلال سنوات الحرب الأهلية، بالإضافة الى ان السعودية هي التي تمكنت من إيقاف الحرب الأهلية من خلال اتفاق الطائف وقدمت المرحوم رفيق الحريري إلى العالم وأعادت بناء اللحمة الوطنية ومبدأ التعايش المشترك وكذلك البنية التحتية للبلد، لكن هذه الاستثمارات لم تكن كلها نابعة من روح أخوية فقط بل كذلك من مصالح مهمة كون لبنان، رغم صغر مساحته الجغرافية، حلقة محورية في ثقافة التعايش السياسي والمذهبي في المنطقة بسبب نمط الحريات السياسية والإعلامية وتركيبته الديموغرافية التي تجعله نافذة مهمة على العالم.
إلا أنه في السنوات الماضية حدث تحول استراتيجي في توازن القوى السياسي داخل لبنان بممارسة حزب الله، عبر سلاحه، نفوذا متزايدا وتحول بمساعدة النظام الإيراني من حزب يدعي المقاومة إلى دولة داخل الدولة ثم إلى دولة فوق الدولة. آخر فصول هذا النفوذ من وقاحة في الموقف هو رفض وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل التوقيع على بيان وزراء الخارجية العرب وإدانة إحراق السفارة السعودية في طهران والادعاء بالنأي بالنفس بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية اللبنانية، لكننا نذكره أن التعذر بالوحدة الوطنية مردود عليه فواضح أن الوزير باسيل لم يستشر في قراره المشؤوم الكتلة الأكبر في الشعب اللبناني المؤيدة لتيار الدولة الوطنية وهي كتلة 14 آذار، بل استشار فقط حزب الله الذي يعلن دائماً انتماءه الطائفي والأيديولوجي إلى إيران، وما نشاهده من صدمة في الشارع اللبناني الرافض لموقف الوزير باسيل يثبت أن الوحدة الوطنية هي آخر ما فكر فيه.
بالتأكيد هناك ضرورة لاتخاذ إجراءات رد على ما وصل إليه حزب الله، المسؤول الأول عن هذا الموقف، لكن نأمل ألا نتسرع إلى مقاطعة قاسية ونهدم ما بنيناه خلال عشرات السنين الماضية بردود فعل متسرعة ونتخذ قرارات كبيرة بإلغاء كافة المساعدات وسحب الودائع واتخاذ إجراءات قاسية ليسقط لبنان تماماً ونهائياً في جيب حزب الله الإرهابي وإيران، بل نحن بحاجة إلى استراتيجية جديدة لإعادة هيكلة العلاقات السياسية والمالية وإعادة تصويبها لتثبيت العلاقة مع التيارات الصديقة الحالية وتأسيس صداقات جديدة موسعة، بهدف تدعيم المشروع العربي هناك ثم العمل على تمكين هذه التيارات.
الأساس لأي استراتيجية للتعامل مع الموقف يجب أن تتم على ثلاثة مستويات.
أولا - إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية والمالية
من الجيد إيقاف الهبة العسكرية التي ربما لم يكن لها داعٍ أصلا، كذلك ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية لتنبيه الحكومة اللبنانية إلى مخاطر الاستسلام لنزوات حزب الله، لكن القصد يجب عدم التسرع بهدم الخيمة كلها، المطلوب إعادة توجيه المساعدات السعودية لتصبح مساعدات ذكية بما فيها إعادة توجيه المساعدات المالية وفرص العمل في السعودية ليستفيد بها فقط المؤيدون للتيارات الصديقة والمفيدة للسعودية بدلاً من فرص عمل ومساعدات عامة يستفيد منها جميع اللبنانيين بمن فيهم الذين يحملون عداوة ضدنا ويتبعون حزب الله وإيران طائفياً وأيديولوجياً، فالملاحظ أن المساعدات الإيرانية لا تذهب إلا للمناطق والفئات السكانية المنفذة للسياسة الإيرانية مما ساهم في تقوية هذه الفئات وإعطائها حصانة تمكنها من تحدي الدولة اللبنانية إذا لم تتوافق الدولة معها ويجب تطبيق نفس السياسة فلا يفل الحديد إلا الحديد.
ثانياً - تطبيق حزم واسعة وحازمة من العقوبات السعودية والخليجية على كافة أنشطة حزب الله في الخليج التي يقوم بها عبر أتباع وشركات واجهة ووسطاء تمثل مصادر تمويل وتسفير أي شخص يشتبه في صلته بالحزب حتى لو لم يقم بنشاط معادٍ ظاهر.
ثالثاً - إعادة هيكلة العلاقات السياسية
بغض النظر عن طريقة انتهاء هذه الأزمة لا بُدَّ من استغلالها لإعادة هندسة العلاقات مع السياسة والمجتمع في لبنان وبداية لا بُدَّ من :
- دراسة هياكل المجتمع اللبناني السياسية والاجتماعية والدينية والميول السياسية لكن منها.
- دراسة كل قضايا واحتياجات كل هذه التيارات كلٌّ على حدة المادية والمعنوية.
- وضع استراتيجية جديدة تقوم على التداخل مع هذه المجموعات ودعم حقوق واتجاهات التيارات المفيدة للمصالح السعودية.
- يجب التوسع أفقيا وعمودياً في التعامل مع كل الأطراف القابلة أن تكون حليفة وعدم الاكتفاء بالأصدقاء التقليديين الممثلين في كتلة 14 آذار بل التوسع لكسب أطراف جديدة ومحايدة حالياً وكسب من يمكن كسبه من الفئات والطوائف بشرط أن تقف على النقيض من حزب الله والتيارات المتحالفة معه. هذه التحالفات يجب ان تشمل حتى تلك التيارات الناقدة لتيار 14 آذار حالياً، لبنان غني بالتيارات السياسية القومية والوطنية والإسلامية المعتدلة التي يمكن أن نجد قواسم مشتركة معها أساسها دعم الخيار الوطني والقومي العروبي للبنان والوقوف ضد المشروع الإيراني المدمر والمساعدة على قيام جبهات جديدة موازية لتيار 14 آذار، الأقرب حالياً للسياسة والمصالح الاستراتيجية السعودية وسيظل كذلك، على أن تدير السعودية الساحة بهدوء وتخلق قواسم مشتركة بين كل التيارات المتحالفة معها وتقبل هامشا للاختلاف بين الحلفاء المختلفين للسعودية وإدارة هذه الخلافات بمهارة لهزيمة المشروع الإيراني وتجنيب لبنان مصير العراق.
والأهم من ذلك النزول إلى مستوى الشارع وعدم قصر التعامل على النخب السياسية والمالية والمجتمعية بل التوسع في التعامل مع الكتل الشعبية في عصر يزداد فيه ثقل الشارع في السياسة على حساب تراجع نفوذ العناصر النخبوية الليبرالية.
لبنان الآن يمر بمرحلة خطيرة جداً لإعادة صياغة الهوية التي تشهد تصاعدا للهوية الدينية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية التي أسسها المرحوم الحريري في الوقت الذي تنتقل فيه عدوى تحالف الأقليات من سوريا والعراق إلى لبنان ليسقط لبنان في يد حزب الله، وهو الآن الأكثر سعادة لإلغاء الدعم السعودي لأنه الطرف الأقوى والأكثر قدرة على التقاط لبنان إذا ما سقط اقتصادياً وسنسمع المزيد من الاستفزاز السياسي والإعلامي الذي يهدف لدفعنا لأخذ مواقف متشددة يتمنى أن نقوم بها.