عبدالعزيز السماري
لا يمكن للمجتمع العربي أن يتجاوز أزماته في العنف والإرهاب والاستبداد إلا من خلال منح مساحات أكبر وأكثر تنظيماً للتعبير عن الرأي، فالأفكار السرية والانقياد الأعمى والتحكم من بعد وسائل يجيدها البعض في غياب أجواء الحرية المسؤولة، ويزيد من الأمر توتراً حين يستخدم الحاكم أو المعارض الإرث الديني في أغراض السياسة، وذلك عندما يحاول إلباس آراءه السياسية، أياً كانت، برداء الدين وقدسيته، وذلك هو بيت القصيد فيما يحدث في الأوطان العربية من نزاع ودماء واقتتال.
فقد استخدمت في البدء معظم السلطات الحاكمة في بلاد العرب الدين ورجاله في ترويج طرحهم السياسي ولشرعنة استبدادهم بالشعوب، وكانوا بالرغم من علمانيتهم المتطرفة يجيدون فن الظهور مع رجال الدين في المناسبات السياسية وغيرها، وهو ما زاد من وتيرة الصراع من خلال الدين، فالمعارض أصبح يستخدم الدين لمقارعة الطرح الرسمي السياسي الذي يستغل السطحية والانقياد الأعمى للعامة للخطاب الديني المسيس.
كانت كلمة السر في هذا العبث بعقول الناس هو إحكام السيطرة، فالحاكم يبحث عن أي وسيلة مشروعة أو غير مشروعة من أجل السيطرة على العقول ثم جعلها تنقاد إلى طاعته بوعي أو بدون وعي، وكان الانتقال من اتجاه إلى آخر أمراً مقبولاً ولا تحكمه قوانين أو دستور، ولكن رغبات السلطة الممثلة في شخص الحاكم المتسلط..
فقد انتقل الرئيس العراقي من خيار العلمانية كحل سياسي براغماتي في بلاده، يستعبد الطائفة والمذهب من العمل السياسي إلى مرحلة الرئيس المؤمن الذي تاب من العلمانية وعاد ليطلق حملة الإيمان والأسلمة على الطريقة السنية بعد الهزيمة في حرب الخليج وانتفاضة الشيعة في الجنوب.
كان الثمن أن أوقد الرئيس التائب النار الطائفية في نخيل ومزارع وميادين وشوارع العراق، فكان الانقسام الذي لا يزال يحرق الأخضر واليابس في أراضيه إلى اليوم، وكان الثمن احتراق وطن بسواعد أبنائه الذين انقادوا بدون وعي خلف التحريض الطائفي البغيض وخلف الفكر الديني الدموي، فاحترقت بغداد وانفصلت الأنبار ودخل الغرباء للأرض العراقية من أوسع أبوابها.
حدث شيء مثل ذلك في تونس، فالرئيس زين العابدين قاد حملة الإيمان في أيامه الأخيرة، واستدعى رجال الدين المشهورين بالطرح السلفي، ليزكوه سياسياً أمام شعبه، وذلك من أجل أن يكون رئيساً مدى الحياة، لكن التركيبة الاجتماعية لتونس وارتفاع مستويات التعليم أنقذا البلاد من الفوضى، بالرغم من محاولات بعض المتطرفين في إذكائها، لكن عقلانية حزب النهضة ومثقفي تونس جنبوها من الدمار.
بينما لم تنجح الحكمة والعقلانية في ليبيا، بسبب جنون الحكم السياسي فيها، فقد كان يُدار بعقلية تفتقد للاتزان والحكمة، وقد حاول أبناء الزعيم أن يحولوا بلادهم من حالة اللا نظام إلى مرحلة استخدام الدين لشرعنة سيطرتهم على عقول الشعب الليبي، لكنها خطوات لم تنجح، وأحدث الكارثة في الحرب الأهلية الحالية في ليبيا.
من أخطر أدوات السلطة أن تحاول أن تحكم من خلال تسييس الدين، وذلك لأنها سلاح ذو حدين، فكما يُدين الحاكم بها الناس، وينتقم من خلالها من معارضيه، يُدان بنفس القدر، وذلك عبر استخدام النصوص من قبل المعارضين المؤدلجين كسلاح سياسي فتّاك ضد السلطة، ومن أجل التحريض ضدها، وهو ما يعني تهيئة الأرضية الملائمة للحرب الأهلية والفوضى في المستقبل.
لذلك ستظل خيارات التسامح والعفو والحرية المسؤولة والإصلاح السياسي المتدرج الطريق الأمثل لتجاوز عنق الزجاجة إلى حيث مرحلة الاستقرار السياسي الطويل كما يحدث على سبيل المثال في أوروبا الغربية، وسيكون خيار الابتعاد عن تسييس الدين البعد الإستراتيجي الأهم عند مخاطبة عقول الناس، وذلك من أجل المهمة الأهم وهي تطهير الدين من براغماتية السياسة وخياراتها المتدرجة وأغراضها وخطابها المتغيّر، وذلك لئلا يتحول الدين الحنيف إلى أداة أو سلاح فتّاك في متناول المغامرين والمقامرين بمستقبل الأوطان، والله المستعان.