عبدالعزيز السماري
أعلن راشد الغنوشي مؤسس ورئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية أن الحركة سوف تخرج من الإسلام السياسي، في تأكيد جديد على بداية أفول بدعة تسييس الدين، و أن الأوطان لا يمكن أن تكون مرة أخرى مسرحاً للصراع بين المؤمنين والكفار أو زمناً آخر للجاهلية الأولى، ثم إصدار فتاوى تشرع محاربته وقتاله حتى يعود إلى دائرة الإسلام، وأضاف «نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرّف أنفسنا بأننا (جزء من) الإسلام السياسي»..
والأهم في هذا الخروج التنويري الإدانة لمصطلح الإسلام السياسي، والذي يحمل في جذوره فكرة الخروج التي بدأت بعد زمن الفتنة الكبرى، والتي كانت محل استنكار بين صحابة الرسول صلى الله وعليه وسلم، وتقوم فكرة الخوارج كما شرحتها سابقاً في مقال كان محل جدل واسع أنها تقوم على تكفير المجتمع أو أغلب فئاته، ثم تخرج طائفة منه، تدعي احتكار الإيمان بالله عز وجل لتقاتل الجاهلية الجديدة.
تتضح تلك الصورة في الكتاب الشهير للمفكر الإخواني محمد قطب « جاهلية القرن العشرين «، والتي تقوم على فكرة مضمونها أن الجاهلية الأولى قد تعود، وقد ظهرت علاماتها في القرن العشرين، وأن بعض المسلمين المعاصرين كفار يجب دعوتهم وقتالهم حتى يعودوا إلى دائرة الإيمان أو الصمت عن طائفة المؤمنين الجدد، وهي نفس الفكرة التي قامت عليها حركة الخوارج الأولى عندما كفروا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا بالسلاح عليهم وقتالهم وكأنهم في الجاهلية الأولى.
وبرغم من هزيمة الخوارج عسكريا في صدر الإسلام إلا أن فكرها أحدث تحولاً خطيراً في الفكر السياسي، فيما يطلق عليه بالإسلام السياسي، فقد ظهر التكفير كسلاح فتاك في شؤون الصراع السياسي، واستخدمته الدول و الحركات الإسلامية الوليدة بعد القرن الأول والثاني الهجري لتشريع سفك دماء الخصوم السياسين، وكان لهذا الإرث الدموي غير الصحيح،كما فهمنا الدين من سيرة الإسلام الأولى، الأثر الكبير في ظهور فكر يُشرع لقتل المسلمين وتفجير مساجدهم فيما يُعرف بظاهرة الإرهاب المعاصره.
ساهم رواج الفهم الأحادي للسياسة في العصور الأولى لترويج فكرة إدعاء الحق الإلهي لتكفير الخصوم، بينما تعلمنا من سيرة الرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم أنه لم يحكم على أحد بالنفاق أو الكفر إلا بوحي من الله عز وجل، وهو ما يعني أنه حق إلهي خالص، وأن ما يفعله بعض المسلمين من تكفير هو خروج عن النهج الصحيح كما طبقه سيد الخلق.
المجتمع بعد خطبة « اليوم أكملت لك دينكم « هو مجتمع مدني مسلم، ويتداول شؤونه في السياسة وغيرها من خلال رؤية مدنية صرفة، وقد تم تطبيق ذلك في صدر الإسلام، وأن أي خطاب يحاول تقسيم المجتمع إلى طائفة مؤمنة وغير مؤمنة أو يقسمها من خلال زي موحد أو اجتهادات دينية مختلف عليها، يخالف النهج الإسلامي الصحيح، فالدين حق للجميع..
ولا يستطيع أيا كان أن يختطف الدين كشأن عام، ثم تحويله إلى شأن خاص عند قلة معينة، إما بخطاب التشدد أو الأزياء الموحدة أو خطاب التكفير والانشقاق، ولهذا السبب كان قرار حركة النهضة تاريخياً، ويعيد الفكر السياسي إلى دائرته المدنية، ويخرج إدعاء الحق الإلهي الخالص من اللعبة السياسية، التي تعني التنافس على خطط التنمية والازدهار والرخاء، لكنها لا تملك حق احتكار رسالة الله عز وجل في الحياة الدنيا؟
يترتب على هذه الخطوة الإقرار أن الجميع مسلمون، ما لم يعلن أحدهم في رابعة النهار كفره الصحيح بالدين أوأنه غير مسلم، وأن للمواطنين جميعاً الحق في العمل والمشاركة في مختلف شؤون الحياة القضائية والتشريعية وغيرها، وأن إقصاء بعضهم لحجة أنهم لم يصلوا بعد لدرجة الإيمان عند الفئة التي تدعي احتكار النصرة لله هو حالة من العنصرية ودعوة للفرقة والتشرذم بين فئات المجتمع. والله المستعان