عبدالعزيز السماري
من مبادئ الدين الحنيف أن التقديس خالص لله عز وجل، وأن ظاهرة التقديس أو التنزيه لأي شيء آخر باطلة، وتؤدي إلى فساد المجتمعات واختلال الموازين، ولهذا تعتبر ظاهرة المال المقدس أو المنزه في تطورها عبر التاريخ شاهداً على ذلك، وتكون بمنح الولي أو القديس أو رجل الدين مالاً من أجل تطهير الأموال وتنزيهها أمام المجتمع..
لعل أشهرها في تاريخ المسلمين تلك التي قامت بين الولي الشيعي والتاجر والعامي من أتباع المذهب، فقد أدت ظاهرة تنزيه الأموال إلى الثراء الفاحش بين رجال الدين الشيعة، وإلى استحواذهم على الثروة والسلطة في المجتمع، ثم لوي عنق السلطة أياً كانت عندما تقرر خطوة أو خطوات إلى الأمام، وإن حدث وتوترت تلك العلاقة فسيكون الجحيم مآلها، ولعل أشهر مثال على ذلك ما حدث في إيران الشاه عندما موّل تجار البازار ثورة رجل الدين، ثم حدوث التغيير الدموي.
في التاريخ السياسي للدول السنية - إن صح التعبير - لم يكن للفقيه أي جاه أو مال، بل كان أغلبهم يرفض التقرب من السلطة والمال والجاه، وقد رفض كثير منهم المناصب العليا، ولهذا كان هذا التاريخ مثالاً على الصراع بين القوى المدنية، ولم يكن للفقهاء دور أو تأثير سواء كان اقتصادياً أو سياسياً،..
ولكن ثمة أشياء تغيرات بعد ظاهرة النفط، وبدء مرحلة الثراء في المجتمع على كثير من الأصعدة، ثم بروز ظاهرة دعم حركات الدعوة لنشر العقيدة الصحيحة، وكان من علاماتها تكدس ظاهرة الأموال في الجمعيات الدينية، وكان بداية دخول مرحلة سلطة المال المقدس، والذي يقوم بدور التزكية والتطهير للأموال في إطارها العام، في أشبه بالحالة النفسية التي يستخدمها البعض لإيهام أنفسهم أنهم أزكياء وأطهار بدعمهم لرجال الدين.
كانت أهم نقلة في هذا السياق ما حدث في ثورة المعاملات المصرفية، وذلك عندما استقطبت البنوك رجال الدين ثم بدأت منحهم الأموال الطائلة، مقابل تطهير معاملاتهم وأموالهم من رجس الخطيئة أمام المجتمع، وكان ذلك بمنزلة التحول الحقيقي لظهور إمبراطوريات رجال الدين المالية، والمدهش أن فتاويهم السابقة قبل التحول اختفت، فقد كانوا يحرمون العمل في البنوك أو حتى الجلوس تحت ظلها في الشمس الحارقة، لكنهم توقفوا عن إصدار تلك الفتاوى بدخلوهم البنك من الباب الرئيس، وبرغم من أن البنك ما زال يتعامل بنظام القروض والودائع في أسلوبه القديم.
كان آخر هذه الظواهر استخدام التجار لرجل الدين للترويج عن أعمالهم التجارية من خلال دعوى خدمة الإسلام، وذلك بمقابل مادي يدخل في تزكية الأعمال والأموال عبر دفع مال لرجل الدين لتطهير أموال التاجر من رجس المال الفاسد أياً كانت مصادره، وكان آخرها أيضاً استخدام رجال الدين لتزكيتهم في انتخابات الغرف التجارية، وربما بمقابل مادي أيضاً..
وهو ما يزيد من سلطة رجال الدين المالية وانحرافها عن الجادة الصحيحة التي كان عليها فقهاء السنة مثل أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم، وأقرب لتلك الظواهر التي حدثت في المسيحية والمذهب الشيعي، فقد كان رجل الدين في عصر الكنيسة الإقطاعي الذي يملك الأموال الطائلة، وما زال الولي الشيعي يشكل ظاهرة حية للمال المقدس في قدرته على التحكم في مختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية في إيران والعراق على سبيل المثال.
نحن أمام ظاهرة جديدة في التاريخ السني، فقد تحول الفقهاء البسطاء إلى رجال دين يديرون إمبراطوريات مالية ضخمة، والأخطر أن يعتقد التجار أنهم بمنحهم المال المطهر سيحصلون على شهادة التزكية والتطهير لأموالهم، وذلك من أجل أرباح أكثر ورواج أكثر..
لعل ذلك نتيجة لظاهرة الأتباع في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وصلت عند بعضهم إلى الملايين، وبغض النظر عن حقيقتها، لكنها مهدت الطريق إلى بروز ظاهرة المال المقدس أو المطهر، وأعني بها على وجه التحديد تنزيه الأموال أمام الأتباع الملايين، من خلال منح جزء منها إلى رجل الدين الجماهيري، الله ولي التوفيق.