عبدالعزيز السماري
دائماً ما يتم اختزال ظاهرة التطرف في المجتمع في أولئك الذين اختاروا طريق التكفير والقتال والموت بالأحزمة الناسفة، بينما هي أكثر من ذلك، فقد تكون الظاهرة في حقيقة الأمر أكثر شمولاً، وتحكي قصة صراع العقل المغلق مع مستجدات العصر، وقد يكون أحد سماتها ظاهرة التطرف الديني، ولكن بمجرد النظر خلال طبقات المجتمع المختلفة وسلوكهم سنكتشف أنها متفشية وتفسر صراعنا الطويل مع التغيير.
لذلك لا يجب اختزال ظاهرة التطرف في التزمت الديني، وفي السلوك العنيف، أو في تلك الأصوات الجهورية و في تلك القدرة على البكاء عالي الصوت للتعبير عنه، أو في الرغبة الشديدة في مطاردة الناس، أو الخروج إلى الشارع للتعبير عنه، وذلك لأنها مجرد علامات لظاهرة أشمل وهي ظاهرة التطرف الذهني في فهم الأشياء، فالحقيقة دائما واحدة عند الغالبية وتجدهم في كثير من الأحيان يقاتلون عقلياً من أجل نفي الصوت الآخر للحقيقة أيا كانت.
ظاهرة التطرف العقلي تغذي سلوك التطرف الذي نعاني منه منذ عقود، و يمثل رأس حربة الدفاع عن حالة الانفصام التي نعيش فيها، فمواقف التشدد التي نعبر عنها في المجالس والصالونات الثقافية والمواعظ الدينية تطغى على رغبة دفينة في حب الحياة والاستمتاع بجمالها وملاذاتها، لكنها تتعرض للقمع من قبل العقل المتشدد المسيطر، كلما هربت تلك الشخصية إلى خارج دائرة التشدد من أجل الاستمتاع بنسمة حرية بريئة، لكنها غالباً ما تعود سريعاً إلى تلك الاصطفاف داخل تلك الدوائر المغلقة ثم المشاركة في التعبير عن التشدد.
التمسك بخيوط الاتصال مع التشدد في كثير من العقول يمثل حالة رجعة إليها في حالة فشل الواقع المعاصر في إحداث التغيير في مشروع الخروج إلي حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي واحترام الحقوق، لذلك تجد الكثير منهم في حالة انتظار لنتائج مشاريع التغيير الكبري، والقادرة على توفير الحاجات الضرورية، ومحاربة الفساد المالي والإداري وتحقيق الأهداف على أرض الواقع، لكنهم دائما يُصابون باليأس كلما فشلت خطة، وتم الإعلان عن بديل لها.
ظاهرة التذبذب بين مواقف المحافظة واحترام الحريات شائعة في كثير من المجتمعات، لكنها تختلف من مجتمع إلى آخر، فالعنف يسيطر على ظواهر الانتقال من مرحلة إلى أخرى في المجتمع العربي، وتبرز دعوات التغيير بالقوة كلما فشلت مسيرة للتغيير في المجتمع، ويساندها موقف تشريعي، بينما تبدو تلك الصورة في الغرب أكثر احترافاً واحتراماً لصناديق الاقتراع، بينما يؤمن العقل المشتدد في الشرق العربي أن العنف هو الوسيلة الشرعية في إحداث التغيير.
لذلك أومن أن الرؤية المستقبلية المعلنة لهذا الوطن يجب أن تنجح مهما كلف الأمر، ولا بديل عن التراجع عنها، وإذا فشلت فستنهار العقول في مستنقع التطرف واليأس، وإذا وصلت إلى أهدافها الوطنية سنجتاز مرحلة كبيرة، وفي غاية الوعورة في التاريخ الاجتماعي والسياسي في الوطن، ولهذه الأسباب على تلك المسيرة أن لا تتوقف عند احتفالات الإعلان عنها، وأن تكون جادة في محاربة الفساد المالي والإداري والذي أرى فيهما المغذيين الرئيسيين للتطرف العقلي في الموقف من الأشياء من حولنا، و في إصلاحهما فتح الباب الأهم للدخول في المستقبل بدون معاناة.
أؤمن بوجود عقل للسلطة في أي مجتمع في التاريخ، وهو الذي يقود المسيرة إما للهلاك أو للنجاة، وخصوصاٍ في المجتمعات الناشئة، والتي لازالت بعض جذورها ترقد في مياه التخلف والأمية والفقر والتطرف، ووصفة التخلص من تركة التطرف العقلي أن يكون عقل السلطة أكثر تحضراً وثقافة ووعياً من المجتمع، أي أن يكون في مقدمة العربة، وأن يقودها إلي بر الأمان، ولن يحدث ذلك بدون التحكم في نزواته وغرائزه وانفصامه عن الواقع، وفي شجاعته على إصلاح الشأن السياسي، وفي تنظيف حديقته الخلفية من المتسلقين وأصحاب المصالح الخاصة جداً، والله المستعان.