أ. د.عثمان بن صالح العامر
أرقام مذهلة موجعة، ونسب مخيفة مؤلمة، وأحوال مهولة مفجعة يعيشها الطفل العربي اليوم في بلاد المهجر يتحدث عنها العالم بكل اللغات، وتنقلها لنا وسائل الإعلام صوتا وصورة صباح مساء، سواء أكان هذا الطفل الشريد عراقياً أو سورياً أو ليبياً أو... ومن قبل كان الفلسطيني والجزائري و... والحكايات العربية تطول، والمآسي الطفولية تتكرر وتتجدد، والسؤال عن الحاضر صعب ومؤلم، ولكن الأصعب والأشد إيلاماً هو سؤال الغد..
ترى ماذا سيكون حال المهجرين من الأطفال الذين لا يعرفون لهم أباً ولا أماً، والذين يمثلون- كما تقول الإحصاءات الدولية- 37 % من جملة الأطفال الذين استقر بهم المقام في الدول الأوروبية على وجه الخصوص، أو ما زالوا في طابور الانتظار مصطفّين على الحدود بين هذا البلد وذاك؟ ترى:
هل تعتقدون أن هؤلاء الأطفال سيفتخرون يوماً ما أنهم كانوا عرباً؟
هل سينقمون منا لأننا كنّا أعجز من أن ندافع عنهم في محنتهم عندما كانوا صغاراً؟
ماذا سيقولون لصغارنا -عندما يكبرون- حين يقابلونهم وقد قدموا للسياحة في إحدى دول الاتحاد الأوروبي التي فيها يعيش هؤلاء المهجرين؟
هل سينسلخ هؤلاء الصغار عن دينهم، ينسون هويتهم، يهجرون لغتهم، يغيرون قبيلتهم، يكرهون جنسيتهم ويديرون ظهر المجن لبلدهم وموطنهم الأصلي؟
ما واجب المنظمات الإنسانية العالمية المدعومة من قبل العرب إزاءهم تنشئة وتربية ورعاية وتوجيها؟
ماذا يمكن أن نقدم لهم في غربتهم اليوم، نحن دولا وشعوباً، في ظل ما تسمح به الاتفاقيات الدولية، والأعراف العالمية، والتحركات الإنسانية المسئولة والمستشعرة للجسدية التي هي جزء أساس من منظومة بناء الشخصية المسلمة؟
إن هذه الشريحة من أبناء الأمة هم من الأيتام الذين عناهم رسول الله - صلى الله عليهم وسلم- في قوله: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى» رواه البخاري.
والشيء بالشيء يذكر، ومن باب نسبة الفضل لأهله، ومن لا يشكر الناس لم يشكر الله، أذكر أنني قابلت - صيف عام 2007م في أحد شوارع لندن- مواطناً عراقياً جاوز عمره الخمسين، يعمل في مكتب خدمات عامة، وفي معرض حديثه عن نفسه ووضعه الحالي ذكر أنه عاش في هولندا خمس سنوات، وكان دخله هناك - كما يقول هو- جيداً، وكان مستقراً نفسياً واقتصادياً وعائلياً، ولكن لعدم وجود مدارس عربية في هولندا، ترك كل هذا وجاء إلى لندن ليُلحق أولاده- الذين كبروا الآن- بالمدارس السعودية ذات المناهج الإسلامية.
وفي زيارة رسمية لفنلندا - ذات الجو الشديد البرودة والحياة الصعبة منتصف عام 2006م - وجدنا أخوين عراقيين (حسين وعلي) في إحدى المدارس، وكانت فرحتهم بنا كبيرة لأننا عرب، وللتاريخ كنا أول وفد عربي يزور فنلندا التعليمية، والجميل في النظام التعليمي هناك أنه يجعل الطالب يحافظ على هويته الأصلية إذا رغب هو وأهله هذا الشيء، إذ هو ملزم أن يدرس اللغتين الفنلندية والإنجليزية لغتين أساسيتين منذ بداية حياته التعليمية، ولغة ثالثة من اختياره، كما توفر لهم المدرسة البيئة الملائمة للبقاء على عقيدته التي يدين بها وسلوكه الحياتي الذي يحب، وهذان الطالبان ومن ماثلهم من العرب اختاروا اللغة العربية والبقاء محافظين على الشخصية الشيعية العراقية، فوفّرت لهم الدولة في تعليمهم الأساس معلمين عربا يعلمونهم اللغة ويدرسونهم ما هو معلوم من الدين بالضرورة عند الشيعة طبعاً، فحافظوا على شيء ولو قليل من معالم هويتهم الأساس، خلاف الحال في بقية دول العالم الغربي كما هو معلوم.
إن مما يسجل للمملكة العربية السعودية في هذا المقام مدارسها في الخارج التي يلتحق بها كثير من أبناء الجاليات العربية والإسلامية، ومع يقيني أن الحال اختلف كثيراً عمّا كان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن هناك من أثرياء العرب - خاصة الخليجيين منهم وعلى وجه أخص السعوديين- من يعيشون هناك وتربطهم صداقات حميمية ببعض الشخصيات الأوروبية، فمثل هؤلاء يمكن لهم- من باب المسئولية الاجتماعية- إنشاء مراكز لرعاية الأيتام تحت نظر ومتابعة وإشراف المؤسسات الدولية لرعاية الطفولة، تكون هذه المحاضن التربوية والنفسية والاجتماعية ذات مستوى عالٍ من الجودة في الرعاية والتنشئة والاحتضان، فأطفال العرب المشردون التائهون في عالم لا يرحم أحق بهذا من غيرهم، خاصة في هذا الوقت بالذات، وجزماً سيواجه من انبرى لمثل هذه المشاريع العملاقة حزمة من التحديات والمعوقات والصعوبات، إلا أن الثمرة والنتاج يستحق منه خوض غمار هذه التجربة التي فيها خيرا الدنيا والآخرة، وحفظ ماء الوجه أمام جيل قادم من أبناء العرب الذين طردوا من العراق عنوة، وهجرّوا على يد بشار الأسد من أرض الشام غيلة، والأيام حبلى وما يدري الإنسان ماذا سيكون غدا لا سمح الله، حفظ الله بلادنا، وحمى أرضنا، ووقانا شر من به شر، وإلى لقاء والسلام.