د. جاسر الحربش
اعتبر الشريف حاتم بن عارف العوني من أصحاب التأهيل العالي في فهم المقاصد الاجتماعية في الدين، فهو دكتور يدرس الكتاب والسنة بجامعة أم القرى وعضو سابق في مجلس الشورى ووجه محبوب في الحوارات الفضائية. تغريدة منه جعلتني أتعجب من احتمال التقصير المتعمّد (وليس القصور) في فهم أسباب اختلاف الطبائع بين البداوة والحضارة. تقول تغريدة الدكتور العوني:
الإسلام مدني بطبعه يكون فهمه وتطبيقه أصح وأجمل مع التمدن والحضارة، ويكون أجف وأغلظ مع التصحر والبداوة.
(تعليق مؤقت: إلى هنا والتغريدة مفهومة وصادقة).
ثم يقول: فلقد نشأ في حواضر العرب مكة والمدينة فكان أروع دين مع أصح فهم مع أحسن تطبيق، فلما تلقفه البدو كحرقوص بن زهير التميمي نشأ الخوارج. مع أن لغته كانت حجة لكن النفسية المتعجرفة والمتوحدة والمستذئبة في التوحش تمنعه من الفهم الصحيح والتطبيق الحسن. ومن رحمة الله أن عامة تراثنا نشأ في أحضان التفقه المتحضر، في الحرمين ودمشق وبغداد والقاهرة والأندلس وتونس وفاس، ولم ينشأ في البداوة إلا نادراً. (انتهت التغريدة).
أعتقد أن الدكتور العوني المتخصص في علوم الكتاب والسنة إنما عبر عن حالة إحباط عابرة، أو أنه لم يجتهد بما فيه الكفاية لفهم المعاني العميقة من تلك الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بالبداوة وطبائعها، ولاستحضار أحداث التاريخ الإسلامي وعلوم العمران والاجتماع.
أولاً: جميع الآيات الكريمة المعنية بالبداوة والإسلام لا تحمل معنى الانتقاص ونفض اليد وإباحة المعايرة بالبداوة عن بُعد، بل هي توجيه إلهي وحثّ شرعي للمكلفين المسلمين على تحضير البدو والاهتمام بهم والأخذ بأيديهم نحو الاستقرار المعيشي والاكتفاء، ليحسن إسلامهم وتتهذب نفوسهم. هنا ينبثق السؤال الجارح: هل أدى المسلمون أهل الحواضر هذه المهمة التكليفية، أم أنهم تخلوا عن بدو الصحراء وانصرفوا إلى الانغماس في المدنية والتحضر؟.
ثانياً: كان تجار وأعيان مكة القرشيون مثل يهود المدينة من أشد الناس عداوة للإسلام، وهؤلاء كانوا أهل التحضر آنذاك واستمرت عداوتهم حتى انكسرت شوكتهم. في نفس الوقت كانت قبائل الأوس والخزرج ومن جاورها من بدو المدينة أول من نصر الإسلام. البداوة سبقت التحضر في الإسلام وجاهدت في سبيله قبل الحضر.
ثالثاً: ليس كل بدوي بطبعه يشبه حرقوص التميمي، وأما الخوارج فكانوا من حضر البصرة والكوفة، ومن استباح المدينة المنورة وضرب الكعبة الشريفة بالمنجنيق كانوا حضر الشام وليسوا بدو الصحاري. البدو لم يتلقفوا (وهذه مفردة سيئة وردت في التغريدة) الإسلام وإنما اعتنقوه، أما الفهم الصحيح والتطبيق الحسن فلم تسجل كتب التاريخ أن ذلك كان باستمرار من مآثر الحضر والتاريخ خير شاهد. وأخيراً هل فتن وحروب التشيع والتسنن بدوية صحراوية أم حضرية من إنتاج العراق والشام وفارس؟.
يحضرني هنا نقاش قديم في مجلس الشيخ حمد الجاسر بعد محاضرة لتكريم ذكرى رجل شهم ومثقف طليعي من وجهاء القطيف هو المرحوم علي أبو السعود. أُثير في النقاش الكثير من التظلم من غارات البدو على واحات القطيف عبر التاريخ. طرحت شخصياً على الحضور هذا السؤال: هل البدو يغزون الحواضر في أزمنة الخصب والسنوات المطيرة، أم في سنوات القحط والجدب فقط، بينما يتبادلون معهم البضائع في المواسم الخصبة؟. البداوة عنصر تكاملي تبادلي مع البؤر الحضارية في الصحراء ما دامت الأرض معشبة والمياه متوفرة لمواشيهم. في مثل هذه المواسم يكون البدوي أكثر كرماً من الحضري، ولكن عندما ينقطع المطر ويحل القحط المميت، ما هو المبرر للحضري ليتوقع من البدوي الهلاك جوعاً مع أطفاله ومواشيه، بينما الحضر خلف جدران الواحات في حالة اكتفاء؟.
واضح أن أسباب الاختلاف هي حتمية الصراع من أجل البقاء، وكل طرف يصارع بما يجيده واعتاد عليه. استمرار المثقف الواعي في التمسك بمفاهيم طبقية فرزية لم يعد مبرراً، وعليه أن يفكر في مبدأ التحفيز المتوجب بالنص الشرعي على الحضر للقيام بواجبهم لتحضير البدو، فيريحون ويرتاحون ويكسبون الأجر والثواب.
وآخر الكلام: ما من عربي حضري إلا وله أسلاف من البدو سواء في أقاصي المغرب أو على سواحل الحجاز والخليج. تأمل أخيراً في معاني هذا البيت:
أيا راصد الجوزاء مالك لا ترى
عيالك قد باتوا مراميل جوعّا