د. جاسر الحربش
يمكن لأي شخص تعريف الانضباط حسب ثقافته أو اهتماماته.. هذا يعني أن الانضباط لازمة تعايشية، قد تكون ضيقة أنانية وقد تكون واسعة بحيث تشمل وطناً بكامله، لكنها من المستحيل عملياً أن تكون بسعة الضمير المتجرد المستوعب للمفهوم الكوني للحياة.
الانضباط قد يكون فئوياً، للمذهب أو القبيلة أو المنطقة أو العرق، وقد يكون لطبقة اجتماعية أو تكتل احتكاري، وقد يكون عسكرياً داخل التراتبيات والتكليفات العسكرية، والأفضل أن يجمع كل هذه الجزئيات داخل مفهوم واحد اسمه الانضباط الوطني، ذلك النوع الذي سبقتنا إلى تطبيقه المجتمعات المعاصرة المتقدمة.. الهويات شيء والانضباط شيء آخر، وأوضح الأمثلة نجدها في الهويات الدينية.
ربما يكون اليهود أكثر التجمعات انضباطاً، أكثر من المسلمين والنصارى والبوذيين، ولكنه في تطبيقاته وشروطه انضباط استحواذي عنصري لا علاقة له بالفضائل الإنسانية أو التعليمات السماوية. ماذا عن حال الإنضباط أو اللاانضباط داخل المجتمعات الإسلامية المعاصرة، هل هو تطبيق لمتطلبات الإسلام كما أنزله الله؟.
لنا في خلافات المذاهب وحروبها دلالات كافية على العكس، لأن الانتماء بالهوية ليس وثيق الصلة بالإنضباط.
ماذا عن مسألة الإنضباط الفئوي، ولنقل داخل القبيلة/ العائلة الكبيرة على سبيل المثال؟.
قد يلتزم بعضنا أو أكثرنا أثناء تواجده في تجمعه القبلي/ العائلي الخاص بما أوجبته عليه التربية من احترام لتراتبيات التفاضل والتكامل القبلية/ العائلية وأدبيات التقديم والتأخير، لكن هذا الانضباط يتناقص أو يتلاشى داخل المجتمع الأوسع، في الشارع والدائرة الحكومية والمؤسسة التعليمية.
يقول الفيلسوف العربي الفلسطيني إدوارد سعيد أنه كشف بسرعة «العصبية القبلية» عند المثقفين اليهود بعد اجتماعات قليلة في حلقات الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر. الوجودية كفلسفة حداثية كانت محاولة ساذجة لصرف اهتمامات الناس نحو فهم الحياة على أساس الاستمتاع بها، كموقف مضاد للانتماءات العصبية التكتلية التي دمرت أوروبا في الحربين الأولى والثانية.
يقول إدوارد سعيد أن تقمص اليهود للمفاهيم الوجودية كان بهدف سحب غير اليهود إلى هامش تمييع الحقوق الوطنية للآخرين، ثم استعمالهم كحلفاء ضد حقوق الفلسطينيين في المقاومة. اليهود كانوا يتصرفون بناءً على أن قبيلتهم أفضل من كل القبائل البشرية الأخرى.
قد يكون اتضح مما سبق، أولا ً أن الانضباط اللامشروط للإنسانية طوباوية وانعزالية استسلامية، وثانياً أن الانضباط الفئوي داخل الأطياف المتعددة للوطن مصلحي ضيق وعدواني، وأوضح ممارساته التفجير والذبح والسبي باسم الله والدفاع عن الدين أو المذهب.
إذاً ما هو المطلوب؟.
المطلوب هو الانضباط الوطني المضمون بانضباط الدولة بسلطاتها الثلاث، وهو الشرط الأول لسيادة العدالة والأمن والرقابة والمحاسبة، وبدون انضباط وطني محوكم لا تنجح الخطط التنموية ولا تستثمر العقول ولا يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه.