د. جاسر الحربش
أرامكو، أهم مصدر للثروة الوطنية عبر كل الماضي كانت تدار بطريقة مغلقه، بدون كشوف حسابات ولا أرقام. مجرد مصدر سلعي للثروة كان يباع بالتقسيط، كنفط في السوق العالمية حتى ينشف ويجف. لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من فكرة استثمار هذا المصدر ولو جزئياً كأسهم مطروحة في السوق. من الذي كان ليجرؤ على طرح الفكرة؟ من الذي كان يمتلك القلب واللسان لطلب عرض البقرة المقدسة في السوق للتعرف على ما تبقى بها من شحم ولحم؟ أرامكو، هكذا كان العقل السعودي العام يرى، مغارة ثروات تقف الحكومة حارسة على بابها وتمنع إلقاء نظرة على الداخل. لماذا، هذا لم يكن سؤالاً قابلاً للطرح، والأسباب متروكة للخيال والجرح والتعديل. حتى الحكومة لم تكن ربما، أقول ربما، على الاطلاع الكافي بما يجري داخل مغارة أرامكو.
بعد الحديث المفتوح مع سمو ولي ولي العهد رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية تحول الموضوع فجأة إلى نقاش وطني مفتوح، حول أرامكو والثروات الوطنية، بمصطلحات جديدة. مجلس إدارة يمثل فيه ملاك أسهم، بعضهم من السعوديين والبعض من الخارج، وشفافية وقوائم حسابات ومشاركة في الإدارة والمسؤوليات. البداية أقل من خمسة في المائة تضاف إلى أصول سعودية أخرى في صندوق الاستثمار السعودي الضخم. هذه لغة جديدة، رؤية جديدة في التخطيط والإدارة تبتعد كثيراً عن الأحادية والسيطرة والاحتكار المعهودة.
نعم هذه لغة جديدة. المواطن السعودي لم يتعود على السؤال في العمق، لا بكيف ولا بماذا أو لماذا، وكل واحد يشوف شغله. هكذا تكونت العقلية الجمعية الجامعة عبر السنين، الحكومة تشوف شغلها والمواطن يشوف شغله. مشاركة المواطن في التخطيط للمستقبل وفي المحاسبة كانت تدار بالتكليف. نعم للمواطن الحرية في حدود الأنظمة أن يتصرف بممتلكاته الخاصة، أما الممتلكات العامة التي من أهمها أرامكو والأراضي والسياحة الداخلية فلها رب يحميها، وبالمجاز هو الحكومة.
لن أقول إنني غير قلق، لكنني بدأت أشعر بتفاؤل وارتياح. كنت أكثر قلقاً قبل التعرف على ما يزمع التخطيط الاقتصادي السعودي الجديد فعله. الدخل الوطني بمفاهيمه المطبقة حتى الآن يتضاءل، وقنوات الفساد والمحسوبية مستمرة في ابتلاع نفس كميات المياه، وعيوب البنيات التحتية تتعرض للتعرية والشروخ بفعل تقلبات غير معتادة قليلاً في الطقس وبسبب الغش الواضح في تنفيذ المقاولات، والتعليم يراوح مكانه خارج العملية الإنتاجية، والنظام الصحي يرتجف بحمى الفيروسات وتكاثر السكان وزيادة الأمراض من كل نوع.
بعض هذا القلق بدأ ينقشع نتيجة الاقتناع بحسن النية للتخطيط للمستقبل، وبسبب القناعة بأهم النقاط الواردة في رؤية التحول الوطني، ومن حسنت نياته حسنت أعماله وكثر توفيقه.
حل مكان القلق القديم المرتبط بأسبابه القديمة قلق جديد، مرتبط بضخامة المشروع وبفجائيته السريعة وبعدم ثقتي في البنية البيروقراطية المتوارثة عبر العقود. أداء أي طبيب نطاسي يستطيع تخريبه ممرض بليد أو متسيب أو خبيث، ومخطط أي مهندس عبقري يستطيع تقويضه مقاول يرتشي أو منتج مواد بناء غشاش. ما يراد له الانتقال بنجاح من الفكر والتخطيط الجيد إلى التنفيذ الميداني المتين يحتاج إلى عقلية مماثلة في الميدان.
اللغة الجديدة التي سمعها المواطن بهذا الوضوح والصراحة لأول مرة تعبر عن رؤية جديدة للمسؤولية الوطنية، تجاه الدولة والمواطن والوطن. الاختبار سوف يكون في تفاصيل التنفيذ، والتنفيذ يحتاج إلى جهاز ميداني نزيه وكفء يلتزم بنفس القدر من المسؤوليات، وسيف المحاسبة مصلت فوق رأسه.
اللغة جديدة، ولكن العقليات في التعامل مع الوقت ومع الرأي المختلف ومع المراجع في الدائرة الحكومية ومع أولويات التعليم ومع حدود المسموح والممنوع ما زالت تستعمل نفس المفردات والتعابير ولها نفس الملامح والصلاحيات.
ذراع مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية تحتاج إلى ذراع آخر اسمها المجلس العلمي الأعلى مهمتها فتح مغارة الأفكار وعرضها للرأي والنقاش بنفس الطريقة التي تفتح بها أبواب الاستثمار للثروات الوطنية. العقول هي أهم مكامن الاستثمار، ونصف العقول الوطنية يملكها الرجال والنصف الآخر تملكه النساء، ولهن نفس الحقوق وعليهن نفس الواجبات.