طراد بن سعيد العمري
بات الاستقدام بشقيه التجاري والمنزلي في السعودية ضرورة من ضرورات الحياة اليومية للفرد والتاجر على حد سواء. لكن على الرغم من رحلة الاستقدام الطويلة خلال الأربعين عاماً الماضية لم يتم تنظيمه بشكل ينعكس إيجاباً على الأطراف ذات العلاقة. كانت الفكرة السائدة منذ العام 1975م، بداية الخطة التنموية الثانية وبداية الاستقدام، أيضاً، أن الاستقدام عملية مؤقتة سيتم الاستغناء عنها قريباً. لكن ما لبث الاستقدام وتجارته وصناعته أن أصبح واحداً من محركات الاقتصاد بسبب حجم مداخيل هذا القطاع، ومع ذلك ما زال بدائياً في خطواته وإجراءاته مما يستلزم إعادة تنظيمه ليتوافق مع رؤية 2030 من ناحية، ويتم معالجة السلبيات التي حدثت في المجتمع، من ناحية أخرى.
الاستقدام هو عملية توظيف بحتة تخضع لكافة الإجراءات والمعايير المعمول بها في حقل الموارد البشرية، لكنها توظيف لعمالة من خارج السعودية. نجحت وزارة العمل جزئياً في تطوير إجراءات الاستقدام لكي تصبح إلكترونية مع شيء من التسريع، لكن لا زال هناك العديد من الإصلاحات القانونية والمالية والإدارية والفنية التي يمكن أن تنظّم عملية الاستقدام. يمكن تصنيف الاستقدام إلى نوعين رئيسيين: العمالة المنزلية؛ والعمالة التجارية. وقد تقدّمنا بعدة اقتراحات لجعل الاستقدام مستقلاً في «الهيئة السعودية للاستقدام... وافد» تشرف على كافة إجراءات وخطوات وأنظمة الاستقدام والعمالة الوافدة وتجمع في صلاحياتها كل ما تقوم به الوزارات المتفرِّقة في الداخلية والعمل والخارجية، ويمكنها من إنشاء شركات مساهمة عامة، يسهم فيها: أولاً، صندوق الاستثمارات العامة بنسبة (25 %)؛ ثانياً، المكاتب والشركات الحالية للاستقدام بنسبة (25 %)؛ ثالثاً، منشآت القطاع الخاص بنسبة (25 %)؛ رابعاً، المواطنين بنسبة (25 %).
تقوم الهيئة بمراجعة كافة الأنظمة والتشريعات والقوانين والرسوم الخاصة بالاستقدام؛ ونظام الكفيل؛ والتأشيرات؛ والتصاديق في الغرف التجارية المحلية والقنصليات السعودية في الخارج، وتقوم بتوحيدها وتطويرها وتخفيف إجراءاتها، وإصدارها في كتيب إلكتروني متوفر بكافة اللغات. كما تشرف الهيئة على النظام الأساسي للشركات المساهمة الخاصة بالاستقدام. كما نقترح على الهيئة إنشاء شركة لإنشاء وإدارة وتشغيل مدن عمالية خارج المناطق السكنية في المدن الكبيرة حسب خطة تتناسب مع رؤية 2030، لتخفيف العبء على الحواضر السكنية في المدن الكبيرة. فمثلما لدينا مدن عسكرية، وصناعية، وطبية، وجامعية، فإن التفكير في إنشاء مدن عمالية مكتملة التجهيزات، ومرتبطة بشبكة من المواصلات العامة بات ضرورياً. كما يمكن أن يتم الاستفادة من خبرة شركة أرامكو، أول من قام بإنشاء المدن العمالية.
فصل العمالة المنزلية عن التجارية أمر له فوائد جمة ستنعكس إيجاباً على المواطنين، وتخفف عليهم هذا السجال والتأزم الدائم الذي يظهر في مواسم متكررة كل عام. كما أن محاكاة تطبيق «أبشر» في شأن استقدام العمالة المنزلية أمر ميسور وممكن، وقد سبق لنا أن عرضنا ذلك على معالي وزير العمل. عدد من الإجراءات يستحسن مراجعتها فيما يخص رسوم تأشيرات العمالة المنزلية التي يقوم المواطن بدفعها أكثر من مرة بسبب هروب العمالة المنزلية قبل أو بعد فترة التجربة المحددة بثلاثة أشهر. بالمناسبة، فإن عدد العمالة المنزلية التي هربت في العام 2014 م فقط بلغ أكثر من (86) ألف عامل وعاملة حسب تقرير وزارة العمل. كما أن تعدد الوسطاء في استقدام العمالة المنزلية جعل من إجراءات الاستقدام أكثر تعقيداً. يمكن للهيئة الجديدة المقترحة أن تعيد النظر في مفهوم الاتفاقيات التي تبرمها وزارة العمل مع الدول الأخرى من غير حاجة ضرورية. ولا ننسى أن دخول القنصليات الأجنبية كطرف وسيط في خطوات الاستقدام فتح سوقاً سوداء أضرت بالاستقدام أيما إضرار.
يبلغ متوسط حجم سوق الاستقدام في السعودية أكثر من (70) مليار ريال سنوياً، ويمكن من خلال تنظيمه وتوحيده في شركات محترفة رفع قيمة هذا السوق إلى أكثر من (150) مليار ريال خلال (5-10) سنوات. أما المدن العمالية فيمكن لها أن تشكل صناعة جديدة توفر دخلاً لا يقل عن (100) مليار ريال سنوياً. كل هذه المداخيل يمكن أن يشكّل جزء منها عائداً مجزياً للدولة، والأهم من ذلك الفوائد المتعددة للمواطن، والمنشأة، والمدن المزدحمة، كما يحسّن التنظيم الجديد من سمعة وصورة السعودية في الخارج، التي أضر بها أمران: سوء ممارسة مكاتب وشركات الاستقدام، من ناحية، وسوء معاملة كثير من المنشآت لعمالتها، من ناحية أخرى. ولذا فإن إنشاء «الهيئة السعودية للاستقدام .. وافد» سينقل الاستقدام من مفهوم المؤقت السيئ، إلى الدائم الحسن. إضافة إلى أن هذا القطاع لديه القدرة على التشغيل الذاتي وتحقيق مداخيل للحكومة، ومكاتب وشركات الاستقدام، ومنشآت القطاع الخاص، والمواطنين. فالكل مستفيد.
يبلغ عدد سكان السعودية اليوم حسب آخر إحصائية رسمية (31.716.240)، منهم (10.604.085) غير سعوديين، أي (33.43 %) ثلث السكان. ويمكن للهيئة الجديدة أن تكون الراعي لهذا العدد الكبير وتعظيم المنفعة المتبادلة مع هذا التنوّع العالمي، وذلك بإقرار أنظمة تسمح لهم بإقامة احتفالاتهم الوطنية والشعبية، والتنقّل بكل يسر وسهولة بين المدن السعودية، وزيارة المناطق السياحية المتعددة في السعودية. ويمكن للهيئة السماح بتكوين لجان أو نقابات عمالية متعددة الجنسيات تساعد في إدارة شؤون العمالة الوافدة وتكون وسيطاً لخدمة الحكومة. كما أن فتح آفاق التعارف مع هذه الجنسيات يزيد من الأفق المعرفي للفرد السعودي، الذي عاش في عزلة فكرية وحضارية مع هذه الثقافات المتعددة التي جاءت للسعودية وذهبت. بلادنا، ولله الحمد والمنة، لها موقع في قلوب وأفئدة الوافدين عن بعد، لكن الصورة تتغيّر عندما يلامس الأجنبي أرض الواقع في السعودية. وقد آن الأوان لكي يفتح الفرد السعودي عن مخزونه الحضاري وقيم الترحاب والتآخي في داخله.
أخيراً، الاستقدام ضرورة تنموية للفرد والمنشأة، وبقدر تسهيلها وتنظيمها، تتعاظم منافعها وتتناقص السلبيات التي نشأت عبر السنوات والعقود وأثرت على حياة المواطن في البيت أو في العمل الخاص والتجارة. الرؤية 2030 فرصة سانحة لتحقيق الكثير من المقترحات التنموية التي تخدم الوطن تنظيمياً وإدارياً ومالياً وثقافياً واجتماعياً، كما أن الرؤية لديها من المرونة، أو هكذا نظن، لاستقبال أي مقترح يعظم المنفعة للمواطن والوطن.