عبدالعزيز السماري
الصراع السياسي بين قادة الحل الإسلامي ودعاة الحل المدني في بعض الدول العربية نموذج مثالي لما يجري من صراع في المجتمعات العربية على مختلف تنوعها، وقد يحاكي بصورة أصغر ما يحدث في العقل من صراع بين واجب دولة المؤمنين، ورغبات دولة الحرية والحقوق المدنية والديموقراطية التي تمثل إرادة الشعوب بدون وصاية أبوية عليا.
الصراع الدائر ليس بجديد على العقل العربي، فهو قديم، ويعود إلى زمن الفتنة الكبرى، وإن اختلفت الصيغ والمفردات، فالبعد القبلي في ذلك الزمن كان يمثل السلطة المدنية في مراحلها البدائية، والأصولية كان يقودها في ذلك الزمن فرق «المُحَكِّمة»، وهم الذين رفضوا التحكيم، وقالوا «لا حكم إلا لله»، وأطلق عليهم أيضاً «جماعة المؤمنين» و»الجماعة المؤمنة» ولكن التصقت بهم تسمية الخوارج، وذلك من باب الإقصاء التام بسبب طرحهم السياسي الإقصائي.
في ليبيا، الصراع في الغالب يجري بين الحكومة المعترف بها دولياً والمنبثقة عن مجلس النواب الذي انتخب ديمقراطياً في عام 2014، والمعروفة رسمياً باسم «الحكومة الليبية المؤقتة»، ويقود لواءها العسكر، وتغذيها دول عربية، وبين حكومة إسلامية تتناحر معها، وأسسها المؤتمر الوطني العام، ومقرها في مدينة طرابلس، وتطالب بدولة المؤمنين، وتقودها جماعة الإخوان المسلمين، وتمولها دول عربية وإسلامية.
كذلك الحال هو الحال في مصر، فالصراع بين الخيار المدني الذي اختطفه العسكر من الأحزاب المدنية، وبين جماعات تحمل « لواء الإسلام هو الحل»، يأتي على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، التي تعزز من مفهوم دولة المؤمنين، ويقف بجانب كل طرف منهما، دول عربية، مما يطيل فترة الصراع، ويجعله عصياً عن الحل.
ومهما اختلفت الوجوه والأفكار، سيظل الصراع الديني المدني نفق مظلم في تاريخ الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي، فالاختلاف يظل كبيراً بينهم حول مفهوم الدولة، وحول مفاهيم الإخوة المسلمين، وهو ما يجعل من الآخرين غير ذلك، وهو ما يقودهم إلى الخروج على الفكرة التي تقسم المجتمع على أساس ديني، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لدخول قبيلة العسكر ، وفرض الحالة المدنية، ولكن في صورة في غاية التشويه.
ومن أجل فهم فحوى الصراع، علينا العودة لمختلف بدايات الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وسنجدها في الغالب تعود إلى فكرة مرحلة بدايات الإسلام، وأن يقوم داعية أو شخصية دينية بدور مجدد القرن الذي يعيد قيام دولة الإسلام أو دولة المؤمنين التي تحكم باسم الله، وتكون مهمتها الأولى محاربة أعداء الدعوة ثم إقصاؤهم بأي وسيلة تماماً مثلما بدأ الإسلام، وإرساء دولة المؤمنين.
ودولة المؤمنين لا تعترف بمبادئ التعددية وحقوق الإنسان والحريات والاختيار، وتدعو إلى فرض تحكيم الشريعة الإسلامية حسب مفاهيم فقهاء القرون الوسطى، وهو ما يحرّض غير المنضوين تحت لوائها لرفع شعار التعددية والحقوق المدنية واحترام مقاصد الشريعة، بينما هم في حقيقة الأمر يخفون موقفهم من تحكيم الشريعة الإسلامية كما يقدمها المؤمنون أو المحكّمة، ويعتقدون أن تلك المفاهيم غير صالحة لزمن القرن الواحد والعشرين.
ما يجري في تونس يستحق التأمل، فالقراءة السياسية عن الحركة الإسلامية التونسية تختلف عن مثيلاتها، فهي تفرض الدخول في صراع مسلح مع الجانب الآخر أو دعاة العلمانية، وتدعو إلى تحكيم الديموقراطية واحترام نتائجها، وربما تنتهي فترة شهور العسل بعد رحيل الغنوشي في المستقبل، فهو يمثل صمام الأمان بشخصيته القيادية، لكن ذلك لا يكفي، لأن الصراع بين دولة المؤمنين ودعاة المدنية لم يصل بعد إلى حلقته الأخيرة في تونس.
وربما لهذه الأسباب تحتاج المجتمعات العربية إلى من يمسك العصا من المنتصف، وأن يكون مؤهلاً وقادراً في نفس الوقت على إدارة الصراع، وقد تختلف تلك الأهلية من دولة لأخرى، فقد تكون العشيرة في بعضها، وفي البعض الآخر سيقوم الجيش بالدور للحد من آثار الصراع، وربما يطول الأمر على هذه الحال، فالحرية في العقل العربي لا زالت أشبه بالغانية التي يتبرؤون منها في رابعة النهار، لكنهم يتسابقون إلى خطب ودها في دجى الليل.