عبدالعزيز السماري
ما زلت أبحث بين أوراق برنامج التحول الوطني عن مستقبل الصحة، وإلى أين سيكون الاتجاه؟ ولعل إشارات معالي وزير الصحة فيما تحدث عنه في مؤتمر صحافي على هامش افتتاحه لمشاريع صحية في جدة تحكي جزءاً من الصورة الكبرى، وهي أن السعودية ستكون واجهة مفضلة لمن أراد علاجاً متقدماً في بيئة آمنة، بعد اكتمال الشراكة بين الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات التي تقدم الخدمات الطبية، وستترك مهمة تقديم الخدمات لشركات ومؤسسات مستقلة عن الوزارة وتمتلكها الدولة، بهدف تقديم خدمات ذات جودة عالية..
أوضح معاليه أيضاً في نفس المناسبة أن المشاريع التي ستتم إحالتها إلى القطاع الخاص ستحول ملكياتها للقطاع الحكومي بعد 25 عاماً، مضيفاً أنه «تم درس هذا المشروع فهذا يعني أن الوزارة ستنتقل من مرحلة التمويل التقليدي لمشاريعها إلى مرحلة أخرى وهي الشراكة مع القطاع الخاص»، وأضاف أن الوزارة تعمل حالياً على مراجعة آلية صرف الأدوية والمستلزمات الطبية، «إذ لا يصرف إلا للضرورة..
وحقيقة ما زلت أجد صعوبة في فهم تلك التصريحات، وماذا يعني تعود ملكية القطاع الطبي إلى الحكومة بعد 25 عاماً، أي بعد ربع قرن من الزمان، وماذا يعني أن الأدوية لن تصرف إلا للضرورة؟ ومن سيدفع فواتير الأدوية المكلفة للغاية؟ وأعني بذلك أمراض السرطان وأمراض... إلخ، والأعصاب مثل الصرع والتصلب المتعدد وغيرها من الأمراض المستعصية، ومن سيتحمل تكلفة الجراحات الدقيقة للأمراض المستعصية؟.. أسئلة لا تتوقف ما دام الوضع الصحي لا يزال غامضاً لهذه الدرجة..
من أهم إشكاليات التنمية في دول العالم الثالث تداخل تقاطع المصالح بين القطاع الخاص والمسؤول، وتلك متلازمة عادة ما تكون آثارها كارثية على البلاد، ولن أطيل الحديث عن المستقبل، وذلك لأنه مرهون بالاطلاع على التفاصيل، التي ما زالت تختفي خلف العناوين العريضة، أو ربما ما زالت الرؤية غير مكتملة لفهم خطة الشراكة بين القطاع الحكومي والخاص، وهل سنأتي بنظام جديد، ويختلف عن بقية العالم، أم سنعيد التجربة الأمريكية؟ التي ما زالت تعاني من مشاكل شركات التأمين وتغطية تكاليفها العالية، وتحاول الإدارة الأمريكية الحالية الخروج منها، ولكن تشابك المصالح دائماً ما يؤدي إلى إفشال الجهود..
ما زال النظام الكندي الصحي يعتبر الأفضل في العالم حسب الدراسات المتعددة، بينما يعتبر النظام الأمريكي الأسوأ لارتفاع تكاليفه وتداخل مصالح شركات التأمين مع تقديم الخدمة الإنسانية، والنظام الكندي يخلو من مصالح التاجر وشركات التأمين الخاصة، والخدمة الصحية هناك مرتبطة بمقدم الخدمة الطبيب والتأمين الحكومي المركزي والمريض، الذي له الحق الكامل في اختيار الطبيب المناسب له..
سأتحدث عن الحاضر، الذي يمر في مرحلة غير مرضية، ولا توحي أن المستقبل سيمر من خلالها، فالوضع غير مهيأ للوصول إلى مرحلة الامتياز كما تتحدث عنها الخطوط العريضة، ولأن ما يحدث لا يخدم تلك الأهداف المعلنة، بل يزيد من اتساع الهوة بين الحاضر والمستقبل المنتظر.
قد لا يخفى على معالي الوزير مدى تأثر العمل التخصصي بعد إقرار الكادر الطبي، وذلك بعد هروب الأطباء في التخصصات الدقيقة إلى العمل في القطاع الخاص تحت الطاولة، وذلك لتحسين دخلهم المادي، ثم غض النظر عنهم، وكان ذلك له تأثيرات في غاية السلبية، إذ تم إقفال بعض البرامج المتخصصة أو الحد من خدمات بعضها. هذا بالإضافة لنقص المستلزمات الطبية الضرورية في المستشفيات الكبرى.
الهروب غير النظامي للأطباء إلى القطاع الخاص أدى إلى أضرار وسلبيات كبيرة، إذ لا يُعقل أن يعمل المرء في قطاعين في نفس الوقت، فالمتضرر الأكبر هو المريض، الذي قد يضطر للذهاب للطبيب في عيادته الخاصة، والذي قد تتأخر فرصه في تلقي العلاج في القطاع الحكومي بسبب فوضى ازدواجية العمل في قطاعين..
والمتضرر الآخر هو الطبيب الملتزم بالعمل في دوام واحد، فهو من الناحية المادية يخسر، وربما تزادد عليه أحمال العمل اليومي، كما تأثرت المهن ذات التخصص العالي، وقد تنهار بسبب عدم تقدير مهاراتها العالية مادياً، فالعمل كطبيب عام في القطاع الخاص يدر مالاً أكثر، بينما يخسر المتخصص على سبيل المثال في أمراض الدم السرطانية أو زراعة الأعضاء أو الجراحات الدقيقة الوظيفية، وهكذا..
ما أود الوصول إليه أن سياسة الخطوط العريضة والمبهمه تركت الحبل على الغارب في المستشفيات، والغارب من البعير ما بين السَّنام والعُنق، وهو الذي يُلْقَى عليه خِطامُ البعير، إذا أُرسل ليرعى حيث شاء، وهذا ما يحدث في القطاع الصحي، وهو حالة أقرب لحالة الفوضى غير الخلاقة، وقد تطول إذا استمرت سياسة الخطوط العريضة في الوزارة.