د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تحدَّثتُ في مقالٍ سابقٍ بعنوان (لماذا أهملنا تاريخنا القديم؟) عن إهمالنا لدراسة تاريخنا العربي القديم الذي كان موجوداً قبل الإسلام بمئات السنين، وكشفتُ عن بعض الأسباب التي ذكرها المؤرخون لهذا الإهمال، مؤكداً أنَّ الإسلام -الذي اتهمه البعض بأنه سبب هذا الإهمال- بريءٌ من هذا، ووعدتُ في مقالةٍ قادمةٍ أن أنقل ما ذكره أحد المؤرخين في أهمية تلك الفترة، وأنَّ فيها من الثراء السياسي والحضاري والاقتصادي ما يجعله مستحقاً للدراسة. لقد نسي البعض أو تناسى أنَّ العرب كانت لهم حضارةٌ قبل الإسلام ربما لا تقلُّ عن حضارة معاصريهم من الفرس والروم، وتجاهلوا أنَّ نزول الوحي كان باللسان العربي لما له من قدرةٍ على التعبير عن الرسالة، وغفلوا عن أنَّ ظهور الإسلام كان في مهد العرب، كلُّ ذلك يؤكد ما لأهل الجزيرة العربية من قدرةٍ على حمل الرسالة ومتابعة نشرها، ولهذا ينبغي استحضار أنَّ الإسلام في حقيقته ليس دعوةً سماويةً جاءت للعرب خاصة، وأنَّ اختيارهم لحمل الرسالة لم يكن عبثا، وإنما لأنهم يحملون من الصفات ما يؤهلهم لأداء هذه المهمة الضخمة، من صبر وشجاعة وتحمل واحترام للعهود ونجدة ومروءة وحب للحرية والشرف والسؤدد وغيرها.
وأيضاً ففي بلاد العرب بيت الله العتيق أول بيت وضع للناس، بناه جدُّ العرب إبراهيم الخليل عليه السلام الذي كانت تنظر إليه الكتب المقدسة جميعاً على أنه الأب الروحي لكلِّ المؤمنين، مع ملاحظة أنَّ الجزيرة العربية لم تكن مهداً للإسلام وحده، حيث عرفتْ أنواعاً من الرسالات، فكان هود في الأحقاف، وصالح في ثمود، وشعيب في مدين، ومن قبلهم إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام جميعا.
هذه أمورٌ تكشف عن أهمية تاريخنا العربي القديم، وضرورة العناية بدراسة تاريخ أولئك القوم الذي أهمل، بل إنَّ المعلومات التي لدينا عنه ظلَّت حتى قرنٍ مضى تعتمد على ما جاء في التوراة وعلى ما كتبه القدامى من مؤرخي الإغريق والرومان، أما الآن فقد بدأتْ الصورة تتغير، خاصَّةً مع وصول العلماء إلى بعض النقوش اليمنية وبعض المخربشات القصيرة على واجهات الصخور في شمال بلاد العرب وخارجها، ومع هذا فإنَّ هناك الكثير من الفترات المظلمة تماماً في هذا التاريخ تحتاج إلى مزيدٍ من التنقيب والبحث والدراسة.
ثم إنَّ دراسة التاريخ العربي القديم ضرورةٌ دينيةٌ وقومية؛ دينية لأنَّ الله سبحانه اصطفى من بلاد العرب بعض أنبيائه، ولأنَّ مكانة الإسلام الفريدة لا يمكن معرفتها في التاريخ الإنساني بصورةٍ دقيقةٍ إلا إذا دُرس تاريخ ما قبل الإسلام، فذلك يسهم في التعرف على أثره، ليس في بلاد العرب فحسب، بل في تاريخ الإنسانية كلها.
أما كونه ضرورةً قوميةً فلأنَّ هذا تاريخنا، بل هو واحدٌ من الأسس الرئيسة لدراسة تاريخ الشرق الأدنى القديم، فبلاد العرب هي موطن العربية اللغة السامية الأم، وهي الموطن الأصلي للساميين الذين خرجوا منها في فتراتٍ مختلفةٍ إلى مصر وسورة والعراق، ثم إنها لا تختلف عن غيرها من بلاد المنطقة العريقة في الحضارة التي قامتْ بها دول ونشأتْ فيها حضارات، وأسهمتْ بنصيبها فيما قدَّمه هذا الشرق الخالد للإنسانية من أيادٍ بيضاء، وكان من الطبعي أن تتأثر بلاد العرب بحضارة تلك المنطقة وتؤثر فيها.
أما لفظ (الجاهلي) أو (الجاهلية) الذي يطلق وصفاً على هذا العصر فيخبرنا السيوطي عنه بأنه اسمٌ حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة النبوية الشريفة، والقرآن لم يستخدم هذا اللفظ (الجاهلية) إلا في العصر المدني، وهنا يختلفون في مقصوده، فمنهم من رأى أنه من الجهل والجهالة نقيضي العلم والمعرفة، أو الجهل بالقراءة والكتابة، بينما ذهب آخرون إلى أنها تعني الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين، على أنَّ فريقاً ثالثاً رأى أنها تعني السفه الذي هو ضد الحلم، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يـجهلنْ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن ثم فإنَّ الكلمة تعني الخفَّة والأنفة والحميَّة والمفاخرة، وهي أمورٌ أوضح ما كانت في حياة العرب قبل أن تتهذَّب نفوسهم بدعوة الإسلام. إنه لمن المؤسف أنَّ تاريخنا العربي القديم -كما يقول الدكتور مهران- لم يلقَ الاهتمام اللائق به حتى في العصر الحديث، فرغم أنَّ في العالم العربي عدداً كبيراً من الجامعات تُعنى أقسامُ التاريخ فيها بدراسة التاريخ القديم بكل فروعه، إلا أنَّ القليل منها هو الذي يُعنى بتاريخنا العربي القديم، وهذا القليل ثلاثة أقسام، قسمٌ -وهو أقلها- يدرس التاريخ العربي القديم كمادةٍ مستقلة، وقسمٌ لا يدرسه إلا كمقدِّمةٍ لدراسة التاريخ الإسلامي، وقسمٌ ثالثٌ لا يُعير هذا التاريخ أيَّ اهتمام، في وقتٍ تهتمُّ فيه الجامعات الأوروبية بدراسة هذا التاريخ، وكأنَّ أمر دراسة تاريخنا أمرٌ يهم الأوربيين أكثر مما يهمنا نحن، وكأنَّ دراسة تاريخ (إسبرطة) و(أثينا) القديم أهم عندنا من دراسة التاريخ القديم لليمن ونجد والحجاز!