د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يزال الحديث ممتداً لمناقشة هذا الموقف النقدي الذي شاع وانتشر بين نقادنا المعاصرين، حين حكموا على الأحكام النقدية في العصور الأولى بعدم النضج، مستدلين على ذلك بخلوِّها من أهم ركنٍ فيها، وهو توفُّر التعليل العلمي المنطقي المقنع، وقد بينتُ في الجزء الأول من هذا المقال أنَّ هذا الحكم غير صحيح، وفيه نوعٌ من الظلم والإجحاف للجهود النقدية آنذاك، وهنا سأستكمل الوقفات التي كنت قد بدأتها سابقاً مع هذا الموقف.
أما الوقفة الثالثة فأشير فيها إلى أنَّ مثل هذه الأحكام الخالية من التعليل لم تكن حصراً على عصرٍ دون غيره، صحيحٌ أنها كانت تظهر بوضوحٍ في العصور الأولى، غير أنَّ الناظر في تراثنا النقدي يلحظ أنها حاضرةٌ أيضاً في غيره، ونظرةٌ عجلى على بعض المواقف النقدية في نهاية القرن الثالث الهجري كفيلةٌ بتأكيد ذلك. فمن نماذج ذلك ما يجده المتأمل في صنيع ابن سلام الجمحي حين قدَّم في طبقاته بعض من لا يستحق التقديم، وأخَّر بعض من يستحق التقديم، دون أن يفصح لنا عن تعليلاتٍ أو أسبابٍ لهذا الفعل، ولم يكن الجاحظ بأحسن حالاً منه، فقد ذكر ذات مرة أنه «ليس في الأرض مولَّدٌ قرويٌّ يُعدُّ شعره في المحدث إلا وبشارٌ أشعر منه»، ويقول في أخرى: «والقضية التي لا أحتشم منها ولا أهاب الخصومة فيها أنَّ عامَّة العرب والأعراب، والبدو والحضر من سائر العرب، أشعر من عامَّة شعراء الأمصار والقرى من المولَّدة والنابتة، وليس ذلك بواجبٍ لهم في كلِّ ما قالوه»، وإذا بحثنا عن أسبابٍ لهذه الأحكام النقدية عند هذا الناقد الشهير -الذي يُعدُّ متأخراً عن العصور الأولى المتَّهمة بخلوِّها من التعليل- لم نجد لها أثرا! مع ملاحظة أنَّ كلَّ هذا لا يعني أنَّ ابن سلام والجاحظ لم يكن لديهما تعليلاتٌ مقنعةٌ للأحكام التي أصدراها.
أما الوقفة الرابعة التي أظنُّها تحسم هذه القضية فهي أنه بنظرةٍ خاطفة على القرون الثلاثة الأولى يتضح ثراؤها بالأحكام النقدية التي صحبها التعليل العلمي المقنع الصحيح، ولكي لا يطول المقام أشير إلى بعضها بإيجاز، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفضل زهيراً لأنه كان لا يعاظل في الكلام، ولا يتتبع وحشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه.
وهذا الأصمعي حين سئل عن تفضيله بشاراً على مروان بن أبي حفصة قال: «لأنَّ مروان سلك طريقاً كثُر من يسلكه، فلم يلحق مَن تقدَّمه، وشَرَكَه فيه مَن كان في عصره، وبشاراً سلك طريقاً لم يُسلك، وأحسنَ فيه وتفرَّد به، وهو أكثر تصرُّفاً وفنونَ شعر، وأغزر وأوسع بديعاً، ومروان لم يتجاوز مذاهب الأوائل»، ولا أدري أين كان ينظر أصحابنا حين حكموا على تلك الفترة بهذا الحكم، وعندهم مثل هذه الأحكام النقدية التي بلغت مرحلةً متقدمةً من التفصيل والتعليل والتحليل.
ثم تأمل أيضاً ما رُوي عن البحتري من أنه كان يفضِّل الفرزدق على جرير؛ لأنه -كما يقول- يتصرَّف من المعاني فيما لا يتصرف فيه جرير، ويورد منه في شعره في كلِّ قصيدة خلافَ ما يورده في الأخرى، واستمع أيضاً إلى عمارة بن عقيل حين سمع أبيات أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدَّدِ
فإني رأيت الشمس زيدت محبة
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمدِ
فقال: «كمُل والله، لئن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني، واطراد المراد، واتساق الكلام، فإنَّ صاحبكم هذا أشعر الناس»، ولا أدري ماذا كان ينتظر أصحابنا أكثر من ذلك كي يحكموا على هذا العصر بالنضج النقدي من خلال توفُّر أهم ركيزةٍ فيه، وهو التعليل المقنع المؤثر.
أما الوقفة الخامسة فتنطلق من أساس أنَّ الأحكام التي صاحبها التعليل لا تكون بالضرورة محل اتفاقٍ وإجماعٍ دائما، وهذا أمرٌ طبعيٌّ لا غرابة فيه، ولولا اختلاف الأذواق لبارتْ السلع، فالعلة النقدية التي يسوقها ناقدٌ ما قد لا تُستساغ عند غيره، وهو ما جعل بعض النقاد يستدرك على بعضهم عدداً من الأحكام النقدية المعللة، كما جعل بعضهم أيضاً يعمد إلى إيجاد عللٍ يخالفهم فيها أكثر النقاد.
وأول ما يحضر في هذا السياق قول الأصمعي: «إنَّ بشاراً خاتمة الشعراء، ولولا أنَّ أيامه تأخَّرت لفضَّلتُهُ على كثيرٍ منهم»، وواضحٌ هنا ما في هذا الحكم من الظلم والإجحاف، ومتى كان يُحكم على الشاعر بتأخُّر رتبته لتأخُّر زمانه؟ وهو ما تبعه فيه البحتري الذي كان يفضِّل دعبلاً على مسلم بن الوليد لمجرَّد أنَّ كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم!
أما الوقفة السادسة الأخيرة التي أختم بها هذه المراجعة النقدية فهي تذكيرٌ بأنَّ النقد ليس علماً جامداً له أصولٌ وقواعدُ ثابتةٌ لا يُحاد عنها، وكيف يُقال ذلك وأهمُّ صفةٍ يجب أن تتوفَّر ف ي الناقد: الذوقُ المصقولُ المجرَّب، وبناءً على هذا فينبغي استيعاب أنه لا يلزم أن يكون وراء كلِّ حكمٍ نقديٍّ تعليلٌ منطقيٌّ مقنع، والقريبون من هذا الفن يعرفون أنَّ الناقد أحياناً قد لا يجد سبباً منطقياً لإعجابه أو عدم إعجابه بالنص الإبداعي.
وقد تنبه إلى ذلك الجاحظ كما في الرواية التي ساقها صاحب الأغاني حين قال: «تذاكَروا يوماً شعر أبي العتاهية بحضرة الجاحظ، إلى أن جرى ذكر أرجوزته المزدوجة التي سماها (ذات الأمثال)، فأخذ بعضُ مَن حضر ينشدها، حتى أتى على قوله:
يا للشبابِ المرحِ التصابي
روائحُ الجنَّةِ في الشبابِ
فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله: (روائح الجنة في الشباب)، فإنَّ له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل، وإدامة التفكير، وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه»، وهو نصٌّ واضحٌ في أهمية الذوق البياني، وأنَّ بعض الأحكام النقدية ليس وراءها من علةٍ منطقيةٍ واضحةٍ سوى استحسان الذوق لها أو استبشاعه، مما يعني أنَّ إلزام كلِّ حكمٍ نقديٍّ بعلةٍ منطقيةٍ ظاهرةٍ أمرٌ غيرُ مُسلَّمٍ به، خاصَّةً في فنٍّ يشترط على المحلقين في فضاءاته أن يكونوا أصحاب ذوقٍ سليم، وحسٍّ نقديٍّ مرهف.
***
وبعد.. فإنَّ القراءة الجادَّة للتراث النقدي، والسعي إلى استجلاء سماته وظواهره بعمقٍ وتمحيص، والحرص على مراجعة المواقف النقدية التي بات مُسلَّماً بها، كلُّ ذلك أضحى ضرورةً واجباً تفرضه هذه المرحلة على كل ناقدٍ جادٍ أمين، ولهذا أدعو إلى إعادة النظر في هذا التراث، ومراجعة كثيرٍ من الأحكام التي أصبحنا نردِّدها دون وعي، بل نقرِّرها وندرِّسها لأجيالنا من بعدنا، فتتكاثر الأخطاء، وتتضخَّم الأوهام، ويمسي تراثنا النقدي مشوَّهاً بمثل هذه الأحكام المتسرِّعة، ولعلَّ نقَّادنا يوجِّهون جهودهم نحو هذا التراث: مراجعةً وتصحيحاً وتمحيصاً وتدقيقا، وينظرون إليه نظرة إنصافٍ وإكبار، لعلهم بذلك يضيئون لنا كثيراً من جوانبه المشرقة، ويصحِّحون لنا عديداً من الأحكام المجحفة التي طالته.