د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
أعترف بدايةً أني لستُ متخصصاً في التاريخ، لكني عاشقٌ له، حريصٌ على القراءة فيه، خاصَّةً تاريخنا العربي المجيد، منطلقاً من إيماني العميق أنه مرآة الأمم، يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها، ثم إن له أهمية كبرى في دراساتنا اللغوية، فهو الزاد الذي لا بد أن يحمله دارس العربية -بمختلف تخصصاتها- حتى يمكن له الحصول على فهم أفضل وتحليل أدق.
ولا شك أنَّ لدراسة التاريخ القديم للعرب أهميةً كبرى مضاعفة في تفسير كثير من الأمور التي لا يمكن فهمها ومعرفة تطورها إلا من هذا السبيل، ومع ذلك كنت أشعر - مجرَّد شعورٍ دون الاستناد على أساس علمي- أننا مقصرون جداً في دراسة هذا التاريخ، فكم منا مَن يعرف حال العرب قبل الإسلام بمئات السنين؟ وكيف كانوا يأكلون ويشربون ويتعاملون؟ وما هي عاداتهم وتقاليدهم؟ وما الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تهيمن على حياتهم؟ وكيف كان تطورهم على مدى تلك السنوات قبل مجيء الإسلام؟
كنتُ حينها أتساءل عن أسباب هذا التقصير، ومسوِّغات هذا الإهمال، إلى أن وقع بين يدي كتابٌ نفيسٌ يهتم بدراسة هذا التاريخ، ووجدتُ في مقدِّمته ما يميط اللثام عن هذه الأسباب، حيث أشار الدكتور محمد مهران إلى تقصير المؤرّخين الإسلاميين في تدوين هذا التاريخ، وانصرافهم عنه بصورةٍ واضحة، ولعلي في هذا المقال أنقل لكم أبرز ما دوَّنه في هذه القضية المهمة.
يذكر المؤلف في مقدِّمة كتابه (دراساتٌ في تاريخ العرب القديم) أنَّ الناظر فيما كتبه كبار المؤرخين الإسلاميين -كالطبري والمسعودي وابن كثير وابن خلدون- يلحظ دقتهم وتحريهم للصحة في كتابتهم لتاريخ الإسلام، بقدر ما يأسف على الإهمال والخلط الذي صحب كتاباتهم عن عصور ما قبل الإسلام، وهذا ما أدَّى إلى تسرُّب بعض المبالغات وكثيرٍ من الخرافات التي أدخلها بعض المغرضين من اليهود والنصارى.
ولعلَّ من نماذج ذلك ما نقله المفسرون عن كعب الأحبار ووهب بن منبه في شرح قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد)، حيث وصلنا منهم أنَّ رجالها كانوا طوالاً كالنخل! وأنه لم يكن للطبيعة تأثيرٌ في أبدانهم لغلظها ومتانتها! وأنَّ (عاداً) تزوج من 1000 امرأة! وعاش 1200 سنة، وأنه لم يمت حتى رأى من صلبه 4000 ولد! كما أنه رأى البطن العاشر من أعقابه! وأنَّ الملك من بعده آل إلى ابنه الأكبر (شديد) الذي حكم 850 سنة! ثم (شداد) الذي حكم 950 سنة! سيطر فيها على كل ممالك العالم! وبنى مدينة إرم ذات العماد! ثم زاد الأمر صعوبةً على المؤرّخين أن الخط العربي لم يكن في أول أمره منقوطاً مما أدَّى إلى التباسٍ كثيرٍ في قراءة الأسماء.
ويذكر المؤلف أنَّ التفسير التقليدي لهذا الإهمال هو أنَّ الإسلام عمد إلى استئصال كلِّ ما يتصل بالوثنية، واعتماداً على ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما قبله)، حتى انصرف العلماء عن الدراسات المتصلة بالجاهلية، بل إنهم جعلوا تاريخهم يبدأ بعام الفيل، والحقُّ أنَّ هذا التفسير غير صحيحٍ جملةً وتفصيلا؛ إذ إنَّ سياق الحديث النبوي كان في شأنٍ آخر، ثم إنه لو كان الإسلام تعمَّد طمس الجاهلية والقضاء على معالمها لما أشار القرآن الكريم إليها، ولتحرَّج المسلمون من الحديث عنها، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ثم إنه لو كان بسبب الإسلام لما اقتصر على بلاد العرب، بل كان يجب أن يتعدَّاه إلى البلاد الإسلامية جمعاء، والواقع غير ذلك، فتاريخ مصر مثلاً أوضح من تاريخ العرب بكثير.
أما الأسباب التي أدَّت إلى طمس هذا التاريخ الثمين ومن ثم إهماله وإغفاله فقد حاول المؤلف أن يستجليها بإيجاز في هذه المقدمة السريعة، أولها: أمية معظم الجاهليين، حيث كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون، بل إنَّ هذه الأمية كانت الصفة الغالبة على العرب عشيَّة ظهور الإسلام، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا تكتب ولا تحسب»، وثانيها: هدم المباني القديمة واستخدام أنقاضها في مبانٍ جديدة، بل إنَّه حُطِّم كثيرٌ من الآثار، وعُبث بعددٍ وافر من المقابر، للبحث عن الكنوز، ولسرقة التحف الأثرية، مما أدى إلى ضياع كثيرٍ من المصادر المهمة في الكشف عن بعض ملامح هذا التاريخ.
وسببٌ ثالثٌ يتجلَّى في أنَّ الجاهليين في الحجاز والنجد لم يكونوا يدوِّنون تاريخهم، بل كانوا يتذاكرون أيامهم وأحداثهم، وطبعيٌّ ألا نطالب الذاكرة أن تعي كلَّ التاريخ وكلَّ الشعر، ولهذا حين جاء العصر الأموي وبدأ القوم في التدوين كان التاريخ العربي قد اختلط بالقصص والأساطير، مما أدَّى إلى أن تخلو كتابتهم من الصفة التاريخية، وتبتعد عن الحسِّ والمنظور التاريخين اللذين يعتمدان على النقد والتحليل والنظر والتحقيق، كما يقول ابن خلدون.
ثم إنَّ من الأسباب أيضاً جهود اليهود والنصارى في نشر عقائدهم في بلاد العرب، حيث عمد اليهود أولاً إلى نشر قصص التوارة، وخاصَّةً ما يتصل بقصة سليمان عليه السلام، ثم لما جاء الإسلام واعترف به أخذ اليهود يذيعون كلَّ ما في التوراة وما في غيرها من قصص سليمان وملكه، فتأثر المؤرّخون الإسلاميون بذلك، وظهر عندهم ما يُعرف بالإسرائليات، فبالغوا في ذلك، حتى نسبوا كلَّ مستظرفٍ أو عجيبٍ من البناء إليه، بل ربما إلى الجنِّ أيضاً.
ثم جاءت المسيحية فنافستْ اليهودية في ذلك، وتعاون أصحاب الديانتين - قصداً أو دون قصد- على طمس معالم التاريخ العربي القديم، وبدأ القوم يُعرضون عن ثقافتهم القديمة، مما أدى آخر الأمر إلى انقطاعهم عنها.
أما آخر الأسباب التي أدَّت إلى هذا الطمس فراجعٌ إلى سيادة النظام القبلي في شبه الجزيرة العربية الذي أدَّى إلى عدم وجود تاريخٍ مكتوب، واقتصار القوم على رواة الأخبار، وليس من شكٍّ في أنَّ تاريخاً كهذا لا يعيش إلا بقدر ما يعيش رواته، فضلاً عن أنه في غالب الأحيان أقرب إلى القصص والأساطير منه إلى التاريخ الحقيقي.
ولعل هذا كافٍ في تبرئة الإسلام من إهمال هذا التاريخ، فضلاً عمَّا فيه من اضطرابٍ وغموض، وإن كان للمؤرّخين الإسلاميين دورٌ في ذلك؛ لأنهم كانوا ينظرون إليه - مع بالغ الأسف- بوصفه عصر همجيةٍ وإفلاسٍ حضاريٍّ وتدهورٍ أخلاقيٍّ وانحطاطٍ في مجال السياسة والدين، فشوَّهوه في قسوةٍ ظاهرة؛ رغبةً -ربما- في تمجيد الإسلام ورفعة شأنه، متيحين للمغرضين من المستشرقين الفرصة في الطعن في الإسلام، واتهامه بما هو بُراءٌ منه، ناسين أنَّ هذا الدين العظيم إنما جاء ليحطِّم البداوة واتجاهاتها الفردية، وليقضي على العصبية المذمومة، حالاً محلَّها رابطة الدين والعقيدة.
هذا هو ما يمكن أن أعده خلاصة الجزء الأول من هذه المقدمة، أما الجزء الآخر منها فلا يقل أهمية عنه، حيث أفاض المؤلف فيه الحديث أهمية تاريخ العرب القديم، وجدارته الكبرى بالدراسة، وثراؤه الحضاري والسياسي والاجتماعي، وضعف جامعتنا في الاهتمام به، ولعلي أفرد لهذه القضية مقالاً آخر، عسى أن يتنبه المؤرّخون إلى هذه الفترة المهمة من تاريخنا، ويسعوا إلى منحها مزيداً من الكشف والدراسة.