د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ومن الأسباب التي أراها تسهم في انتشار هذا (الوهم) قبول كثيرٍ من الناس بها، واستعدادهم لدفع المبالغ الطائلة ثمناً له، فحين يمرُّ بي إعلانٌ لأمثال هذه الدورات، ولاحظتُ أنَّ قيمة الاشتراك فيها مرتفعٌ للغاية، أعتقد أنَّ الدورة ستفشل، لأنها واضحةٌ في الغشِّ والخداع، لأنه إن تغاضينا عن موضوع الدورة وما فيه من وهمٍ وسخافة..
فمن سيُقدِم على دفع ثمنٍ مثل هذا للاشتراك فيها؟ ولذا لم أتخيل أنَّ المغفلين -فضلا عن العقلاء- أن يفكروا -مجرَّد تفكير- في الاشتراك فيها، ومع هذا كله أتفاجأ -وقلبي يقطر أسىً وإشفاقاً- بأنَّ أعداداً كبيرةً من ضعيفي الشخصية يتسابقون لنيل شرف التسجيل فيها، وحينها دون شعور أجدني أردِّد قوله تعالى: «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم»!
ولعلَّ مردَّ هذا الأمر إلى الرغبة العارمة لدى الفرد في تطوير قدراته، والتغلب على مشكلاته، وحرصه على إنجاز الأهداف، وتحقيق النجاحات في حياته العادية والعملية، والإشكالية أنه يريد ذلك بشكلٍ سريعٍ وعاجلٍ، وعلى أيِّ صورةٍ تمَّ بها الأمر، لذا فهو لا يجد أمامه غير هذه الدورات ذات اليوم واليومين والثلاثة، فيتعلَّق بها كما يتعلَّق الغريقُ بالقشَّة، وحينها يكون مستعداً لفعل أيِّ شيءٍ مقابل تحقيق هذه الأهداف، حتى لو كان هذا التحقيق وهماً وخُرافة، إنه نوعٌ من خداع العقل بشكلٍ لا واع، وتحقيق الرضا النفسي بصورةٍ غير مقصودة، هروباً من مقابلة الواقع، وفراراً من مواجهة الحقيقة، بل ربما إنَّ بعضهم -حين يشعر بفشل هذه الدورة في تحقيق أهدافه- يسترجع ذكريات هذه الدورة، ويشاهد شهادتها البائسة، أملاً في أن يعود إليه التخدير الشعوري، وترجع إليه أوهام السعادة وأساطير الرضا.
ثم إنَّ من الأسباب أيضاً اعتقاد المدرب أنه مؤهلٌ لإقامة أيِّ دورة، حتى لو كانت في شيءٍ لا يحسن مبادئه، فضلاً عن أن يقيم دورةً فيه، حيث يصدِّق نفسه، ويتوهَّم أنه قادرٌ على التدريب عليه، وأعتقد الناس أنَّ كل مَن أنجز رسالةً علميةً يمكنه أن يقيم دورةً في كيفية كتابة الرسائل حتى لو كان أمضى في كتابة رسالته عشر سنوات ثم أخذ الدرجة بالمجاملة، أو أنَّ كلَّ مَن تخصَّص في علم النفس قادرٌ على إقامة دورةٍ في الحياة السعيدة حتى لو كان نجاحه في التخصص بتقدير (مقبول)، أو أنَّ كلَّ مَن تخصَّص في الإدارة فلا مانع أن يقيم دوراتٍ في كلِّ ما يتعلَّق بالنجاح الإداري حتى لو تربع على قمة الفشل الإداري، كلُّ ما في الأمر أنْ تلتحق بدورةٍ لإعداد المدربين آنفة الذكر، وتحصل من خلالها على رخصةٍ تجعل عملك نظاميا، فهي التي ستؤدي بك إلى الثراء من أوسع أبوابه.
بل إننا رأينا مدربين بالغوا في تصديق أنفسهم، وزادتْ جرعة الجرأة لديهم، فأصبحوا يقيمون دوراتٍ في كلِّ شيء، وليس عليه إلا أن يقرأ كتاباً متخصصا في وهم من هذه الأوهام، بعد أن يحصل عليه غالباً مترجماً من الشبكة العنكبوتية، ويحاول أن يستوعبه، ثم يأتي إلى أصحابنا المساكين لينقل لهم ما قاله مؤلفه فيه، على ألا ينسى تصميم عرض قصير من خلال (البوربوينت)، وتوزيع صفحتين فارغتين، وقلم رصاصٍ جميل، لتكتمل الحقيبة التدريبية، ويجتمع ممثلو المسرحية في فندقٍ فاخر، لكي يكون العرضُ فاخراً هو الآخر!
ولعلَّ من الأسباب التي أدَّت إلى انتشار هذه الدورات رغبةُ بعض المؤسسات في تطوير موظفيها، وحرصها على سرعة الإنجاز، وجودة الإنتاج، توفُّر البيئة المناسبة للعمل، لذا فهي تبحث عن دوراتٍ تدريبيةٍ سريعة، وعن أسماء مدربين لهم خبرةٌ في بيع هذا الوهم بجودةٍ عالية! وتدفع لهم ولجهاتهم مبالغ طائلة، لترسل موظفيها الذين يفرحون كثيراً بمثل هذه الدورات؛ لأنهم يعدونها إجازةً مجانية، ولا أظنُّ أنَّ وهم هذه الدورات يغيب عن هذه المؤسسات -ولا حتى أولئك الموظفين- لكنه الحل الوحيد في نظرها لتطوير منسوبيها، وحتى لا يُقال -حين تصدر تقريرها السنوي- إنَّ هذه المؤسسة لم تفعل شيئاً في تطوير موظفيها!
ومن الأسباب التي أراها تجعل بعض الأفراد يتوجهون -ربما دون شعور- إلى دوراتٍ من مثل هذا النوع رغبتُهم في إثراء سيرهم الذاتية، وتميز مسيرتهم العملية، ولا يوجد أسهل من الالتحاق بهذه الدورات التي لا يُكلِّف حضورها سوى دفع مبلغٍ ماليٍ يتيح لك الحصول على شهادةٍ تثبت أنك حضرتَ هذه الدورة وأفدتَ من معلوماتها القيمة! وهذا ما جعلني أفرِّق في بداية هذا المقال بين الدورات المهنية وغيرها، لأنَّ الدورات التي أؤمن بها تتطلَّب استعداداً ذهنياً وتركيزاً شديدا، بل ربما يتم تكليف المتدرِّب بواجباتٍ منزليةٍ لا بُدَّ له من إنجازها، بل إنَّ بعضها يعقد اختباراً عملياً في آخرها، ويتم منح الشهادة بناءً على نتيجته، أما دورات أصحابنا فيكفي فيها أن يجلس المتدرب فاغراً فاه -مستمعاً أو مستمتعاً بغفوة ٍ لا فرق- ويملأ بطنه مما لذَّ وطاب من الفطائر والحلويات الفاخرة التي يقدِّمها الفندق -الذي حصل على نصيبه من كعكة هذه التجارة الرابحة من جيب هذا المتدرب المسكين- ثم تأتيه الشهادة التي لم يبذل في الحصول عليها أكثر من ذلك، وهنا تتضخَّم سيرته الذاتية (العطرة) بمثل هذا النوع من الدورات، مما قد يؤهله إلى ترقيةٍ أو أفضليةٍ في إحدى الوظائف التي يبغي التقدُّم إليها.
***
إني أدرك تماماً أنَّ مثل هذا الكلام قد لا يعجب فئةً معينة، وهم المستفيدون من إقامة هذه الدورات، سواء أكانوا أصحابنا المدرِّبين أو تلك الجهات التي ترعاهم وتنسِّق لهم الإعلان والزمان والمكان، وقد أُتَّهم بأني لم أفهم هذه الدورات، أو أني أتجنَّى على أصحابها، أو أني أنظر إليها نظرةً أحادية، غير أنَّ متابعتي لهذه الظاهرة، وقراءتي حولها، وقربي من بعض أصحابها، ومعرفتي بأحوالهم العلمية والحياتية، تؤكد كل ما ذكرته، ويكفي أن تنظر في هؤلاء المدربين عن كثب؛ لتعرف هل أفادوا أنفسهم قبل المجتمع مما يدَّعون تحقيقه من خلال هذه الدورات، وقديماً قيل: فاقد الشيء لا يعطيه، غير أنَّ إقبال المغفَّلين عليها جعلتْ هذا الفاقد (قد) يعطيه، ويعقد الدورات للتدريب عليه.
ثم إنه لو كان سيتحقَّق فعلاً هدفٌ واحدٌ فقط من كلِّ دورةٍ تتاجر بالوهم لاكتظَّ الوطن بالعباقرة، وحُلَّت جميع مشكلات المجتمع، وزاد إنتاجهم في العمل، ولتقدَّمتْ البلاد وازدهرتْ حضارتها، وأضحتْ من أوائل الدول في كلِّ شيء، لكنه الوهم الذي يخدِّر العقول، ويخدع النفوس، ولا عزاءَ لأصحابنا المتدربين.