د.محمد الشويعر
واستكمالاً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي عن توجيهات للشباب.. وحقوقاً عليهما لوالديهما، فكن أيها الشاب نموذجاً يُحتذى به، ومؤثراً، لا متأثراً بمن لا يرعون هذا الواجب، ومنبهاً لآثار كل ما يخامر العقل، ويميت الإحساس، ومنوها بمكانة البر للوالدين،
ومشيداً بالنماذج، التي تراها في شباب حرصوا على اهتمامهم بالوالدين أو أحدهما سواء كانت هذه النماذج الطيبة من البنين أو البنات، لأن الإشادة بهم، ومدحهم تبعث على التقليد الحسن.
فإذا كنت صالحاً في نفسك، فحذّر غيرك وبرقّة ولطف، عن المؤثرات التي تدعو للعقوق، وناقش بهدوء وإقناع، الآثار الإيجابية والسلبية في التعامل مع الوالدين، وما يعود على الفرد والجماعة من آثار حسنة في حالة البر وسيئة في العقوق، عند الناس أولاً، وعند الله سبحانه أصلاً، وحذّر من جلساء السوء وما يجرهم الشيطان إليه، ليكونوا من أعوانهم.
وعلى كل شاب: أن يعرف منزلته عند الله في الجزاء، بقدر ما أنزل به والداه، ومكانته عند أبنائه، بقدر ما أنزل به والداه. ألم يخبر -صلى الله عليه وسلم-: (بأن الجنة تحت أقدام الأمهات)، وقال وهو يصعد المنبر: (آمين ثلاث مرات) فلما سئل عن هذا؟ قال (أتاني جبريل فقال: رغم أنف امرئ أدرك والديه، أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين؟ فقلت آمين).. ثم ذكر بقية الثلاثة.
فالشباب: ذكوراً وإناثاً، مدعوون للتمعّن في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووصاياه بالوالدين، التي هي توضيح وتمكين، للتوصيات الكريمات، بحق الوالدين في القرآن الكريم، وبرهما والإحسان إليهما في عشرين موضعاً.
وهذا من الأهمية، فيجب مخاطبة العقول بها، وأخذ هذا منهج عمل وقدوة صالحة، وإشادة في المجتمع، حتى تتأسى القلوب الرقيقة، وتلين القاسية، وتحصل النتائج المرجوّة تدريجاً، فإذا كان أبسط العقوق، التضجر من الوالدين، وأبسط التضجر كلمة (أفٍّ)، قد نهى الله عنها، وأقل أسلوب المخاطبة رفع الصوت عليهما، (فلا تنهرهما). فإن الاقتداء بالأدب القرآني واجب في التعامل مع الوالدين أو أحدهما عند الكبر، لأن هذا الوقت هو زمن حاجتهما للإحسان، لما ينتاب الكبير من ضعف القوى، والأمراض المتتالية، وحاجته إلى من يؤنسه.. فاعمل فيهما خيراً وبراً، تحصد نتائجه عاجلاً في أبنائك.
قال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: لو علم الله شيئاً من العقوق أقل من (أفّ) لحرّمه، وعليه في النداء لهما: ألا يسميهما، بل يقول: يا أبت، يا أمي. ومن الآداب مع الوالدين قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن رجلاً أتى رسول الله، ومعه شيخ فقال له: (من هذا)؟ قال: أبي. فقال له: لا تمشين أمامه، ولا تقعدنّ قبله، ولا تدعه باسمه ولا تستبّ له) رواه ابن مردويه.
وتمعنوا أيها الشباب في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكثيرة، المبسوطة في كتب الحديث، وفي كتب التفسير، وما فيها من أهمية لرضا الوالدين المقرون بطاعة الله، وسخطهما من سخط الله، وجعل رسول الله برهما أفضل من الجهاد في سبيل الله، إذا قام به ولي ودعا إليه. فقد جاء رجل يبايع الرسول على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال له: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) رواه البخاري.
ونموذج ذلك من البر ما أورده السيوطي في تفسيره (الدر المنثور)، قال: أخرج عبدالرزاق في المصنف، والبيهقي عن طاووس، قال: كان رجل له أربعة أولاد ذكور، فمرض، فقال أحدهم لإخوته: إما أن تمرضوه وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه أنا، وليس لي من ميراثه شيء.
قالوا: بل مرضه أنت، وليس لك من ميراثه شيء. فمرّضه حتى مات، ولم يأخذ من ماله شيئاً، فأتاه في المنام، فقال له: أئت مكان كذا وكذا، فخذ منه مائة دينار، فقال في نومه: أفيها بركة؟ قالوا: لا.
فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته، فقالت له: خذها.. فإن من بركتها: أن تكتسي منها، وتعيش منها.. فأبى. فلما أمسى أتى في المنام، فقيل له: ائت مكان كذا وكذا.. فخذ منه عشرة دنانير، فقال: فيها بركة؟ قالوا: لا.
فأصبح فذكر ذلك لامرأته، فقالت له: مثلما قالت في المرة الأولى، فأبى أن يأخذها.
فأتي في النوم في الليلة الثالثة، فقيل له: أن ائت مكان كذا وكذا، فخذ منه ديناراً واحداً، فقال: أفيه بركة؟ قالوا: نعم.
فذهب وأخذ الدينار، ثم ذهب به إلى السوق، فإذا هو برجل يحمل سمكتين (حوتين) فقال: بكم هذا؟ فقال: بدينار، فأخذهما منه بالدينار، ثم انطلق بهما إلى بيته، فلما دخل بيته، شق الحوتين، فوجد في بطن كل واحد منهما درة، لم ير الناس مثلها.
وكان الملك قد بعث من يشتري له درة، فلم توجد هذه الدرة إلا عند هذا الرجل، فباعها له بوقر ثلاثين بغلاًَ ذهباً، فلما رآها الملك، قال: ما تصلح هذه إلا بأخت، فاطلبوا مثلها، وإن أضعفتم، قال: فجاؤوا لهذا الرجل، وقالوا: أعندك أختها لنعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: أو تفعلون؟ فقالوا: نعم، فأعطاهم أختها بضعف ما أخذوا الأولى.
وأخرج عبدالرزاق في المصنف والبيهقي، عن يحيى بن أبي كثير -رضي الله عنه- قال: لما قدم أبو موسى وأبو عامر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه وأسلموا، قال: ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟ قالوا: تركناها في أهلها، قال: فإنها قد غفر لها. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ببرها بأمها. قال: كانت لها أم عجوز كبيرة، فجاءهم النذير أن العدو يريد أن يغير عليكم الليلة.
فارتحلوا ليلحقوا بعظيم قومهم، ولم يكن معها ما تحمل عليه، فعمدت إلى أمها، فجعلت تحملها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها، ثم ألصقت بطنها ببطن أمها عن الحرّ، وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت.
وهذا من عملها في برّها بأمها، بعد ما ثقلت هذه الأم من الكبر.
الدرُّ المنثور في التفسير المأثور 5:268 - 269.
جعلنا الله وإياكم من البارين بوالديهم، ولا حرمنا الله أجرهم؛؛؛