ياسر صالح البهيجان
إن التحوّل الفكري هو تحوّل يمسّ جوهر معالجة أفراد المجتمع للقضايا المعاصرة والمستحدثة والتي لم يكن لهم سابق عهد بها، إنه مهارة إنتاج الحلول للمشكلات التي تطرأ في ظل التغيرات المتسارعة في زمن التكنولوجيا والعصر الرقمي الذي خلق أزمات ليس بالإمكان تجاوزها بأنماط التفكير التقليديّة، ليفرض واقعاً جديداً يعزز من مبدأ التحول الفكري بوصفه حاجة ملحة لتحقيق إمكانيّة التعايش مع الذات والآخر من جهة، والتقدم في سلّم الحضارة الإنسانيّة من جهة أخرى.
وإن كانت الخطط التنمويّة ليس بالإمكان استحداثها إلا عبر تحول فكري على مستوى القيادة وصنّاع القرار، فإن تنفيذها على أرض الواقع هو الآخر يتطلب مجتمعاً لديه المقومات الفكريّة القادرة على استيعاب المرحلة؛ ليتمكن من تطبيق الخطط وفق ما يكفل تحقيق النتائج المرجوّة منها.
المجتمعات البدائيّة تفشل في اتخاذ خطوات جادة نحو التحضّر ليس لأنها عاجزة عن وضع الاستراتيجيّات الواضحة لتكون في مصافّ الدول المتقدمة، ولكن لأن ذهنية أفراد المجتمع اعتادت اجترار أساليب تفكير محدودة لا تعالج المواقف إلا بطرق أحاديّة، ما يسهم في إجهاض محاولات تأسيس المشاريع التنمويّة، لذلك يأتي التعليم على هرم مقومات نهضة المجتمعات، لما يقدمه من تحولات فكريّة جريئة تجعل الإنسان أكثر إدراكاً لمتغيرات عصره، وتمنحه القدرة على التعاطي مع كل ما هو جديد دون أن يتوجّس منه، أو يظنه مشروعاً لم يُنشأ إلا لهدم معتقداته وأعرافه الاجتماعية. التحول إلى مستويات فكريّة جديدة وذات سمة عليا ليس تخلياً عن المبادئ والقيم الدينيّة والإنسانيّة، إنما يعني النظر لتلك القيم من زوايا مختلفة تجعل منها رادفاً لتطوّر المجتمع ونموّه.
الأعراف الاجتماعيّة التي عادة ما تعيق التحولات الفكريّة الخلاقة نشأت وفق ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة مغايرة عمّا يفرضه الواقع اليوم من متغيّرات، ومنحها صفة القداسة على الرغم من طبيعتها القابلة للتحوّل يجعل الإنسان يعيش خارج عصره، وحينها لن يتمكن على الإطلاق من إحداث أي نقلة نوعيّة إيجابيّة تحقق مصالح أفراد المجتمع، كما أنها ستقف سداً منيعاً أمام مساعي الجهات العليا الطامحة إلى توفير حياة أفضل للمواطنين.
وتأتي خطوة إعادة تقييم المناهج التعليميّة وجدواها في صناعة قادة المستقبل بوصفها اللبنة الرئيسة لإنتاج تحوّل فكريّ له انعكاساته الإيجابيّة في استجابة أفراد المجتمع مع الاستراتيجيّات التنمويّة، إذ من المعيب أن تخلو المناهج الحاليّة من مقررات تتناول أساليب التفكير، وطرق بناء الشخصيّة، وآليّات الفكر النقدي، وأبجديات الحوار الناجح، وسبل معالجة المشكلات، وهذه الموضوعات من المفترض أن تمثل صلب العمليّة التعليميّة، لا أن يكتفي الدارسون بجمع المعلومات وحفظها وفق نمط تلقينيّ تجاوزه الزمن. كما أنه ليس من العدل أن نلقي باللوم على جهة واحدة بعينها، إذ إن التحول الفكري نتاج عمل متكامل يشمل وزارة التعليم ووزارة الاقتصاد والتخطيط ووزارة العمل والجهات التي تعنى بالخدمات الاجتماعيّة والجمعيّات الخيريّة والمعاهد الحكومية والأهليّة، فالاستثمار في المواطن لا يضاهيه أي استثمار، وكلفة تطويره فكرياً مهما بلغت تظل رخيصة؛ وإن كان هو الماضي فهو أيضاً الحاضر والمستقبل.