ياسر صالح البهيجان
اعتادت المجتمعات تصنيف ما يرتديه أفراد المجتمع على أساس نوع الجنس، إلا أن هذه العادة أخذت تتراجع مؤخراً في ظل اتجاه كبرى الشركات العالميّة المتخصصة في تصميم الأزياء إلى إنتاج ألبسة محايدة تكون صالحة لارتداء الإناث والذكور على حدٍّ سواء، وهذا التحوّل ليس تحولاً شكلياً فحسب، إنما هو تحوّل يطال منظومة التفكير البشري إزاء الخطوط الفاصلة بين الجنسين.
الشركات التجاريّة لا تتعامل إلا بالمنطلقات الاقتصادية البحتة الخاضعة لمبدأ الربح والخسارة، لكنها في الآن ذاته تُجري أبحاثاً اجتماعيّة دقيقة لفهم التغيرات التي تطرأ على ذهنية أفراد المجتمع، لتستطيع طرح منتجات منافسة تحقق لها أعلى المكاسب، وهذا ما يجعل اعتماد تصميم ألبسة محايدة جنسياً أمراً يشي بتطوّر نظرة كل جنس لذاته وللآخر.
الاتجاه نحو الحياد الجنسي في إنتاج السلع واستهلاكها ظاهرة ثقافيّة تقلّص الفجوة فيما بين الرجل والمرأة، وهي استجابة من المجتمعات الغربيّة للضغوط التي تواجهها في سبيل المساواة بين الجنسين، والتي قطعت فيها المرأة في الغرب شوطاً كبيراً يمتد لعقود ليست بالقصيرة، حتى تمكنت من ترشيح نفسها للرئاسة كما في أنموذج هيلاري كلينتون الطامحة لأن تكون أول امرأة تحكم أقوى دولة في العالم (أمريكا).
الإشكاليّة الثقافيّة ليست في المجتمعات الغربيّة التي تتضمن ثقافتها ممهدات للتحوّل الأنثوي نحو الأدوار الذكوريّة، إنما كل الإشكال في المجتمع العربي الذي يتلّقف إنتاجات الآخر وهو في حالة عمى ثقافي، ويبدأ بالتحوّل غير الواعي نحو مستويات تفوق قدراته العقليّة، ما يُنتج صدمات ثقافيّة يتعارض من خلالها الموروث القابع في الذهن مع الواقع المعاش بكافّة تفاصيل، وهذا التعارض يُنتج ذهنيّة مأزومة ذات هويّة متصدّعة تتوجّس من الآخر بالقدر الذي ترتمي به في أحضان سلعه الاستهلاكيّة.
عمليّات الإنتاج والتصدير لا تخلو من النَفَس الثقافي، لذلك فإنّ ثقافة الدول المصنّعة أكثر هيمنة وقوة وتأثيراً في العالم أجمع من ثقافة المجتمعات الاستهلاكيّة. والاستهلاك المستمر يُنتج طاقة سلبيّة وحالة ركود في الثقافة الأصيلة واجتياح يصعب مقاومته من الثقافات الوافدة الحاملة لروح العصر والقادرة على ترجمة متطلباته على أرض الواقع.
الموروث العربي من حيث هو قوّة ذهنيّة كامنة وقابلة للانفجار في أية لحظة يرفض وبشدّة مسألة التقارب بين الجنسين، ويقف موقف العداء من الدعاوى المطالبة بالمساواة بينهما، لكن الشاب العربي المتشبّع بذلك الموروث لا يجد حرجاً في استخدام عطر نسائيٍّ، أو حتى استعمال اسم مستعار أنثويّ في شبكات التواصل الاجتماعي، دون أن يشعر بأنه يقع في حالة تناقض فيما بين سلوكه ومعتقداته، ما يؤكد بأنّ الثقافة الاستهلاكيّة أكثر نفوذاً على مستوى الأفعال من الثقافة الأصيلة التي يقف مدى سيطرتها على ما يتلفظ به اللسان فحسب.
الثقافة الاستهلاكيّة أنتجت مفهوم الاستعمار الثقافي الموازي لمصطلح الاستعمار العسكري، الأخير يروم استباحة أراضي الشعوب والاستحواذ على خيراتها، أمّا الأول فهو أشدّ خطراً لقدرته على تغيير هويّة أفراد المجتمعات واستبدال ولائهم لأرضهم، إلى ولاءات خارجيّة تسهم في خيانة الوطن وتنفيذ مصالح أعدائه.
المجتمعات العربيّة ستظل رهينة ثقافات أخرى إن لم تتجاوز مرحلة الاستهلاك وتتجه نحو التصدير بكافّة أنماطه الصناعي والتكنولوجي والمعرفي، لتتمكن من إيجاد أرضيّة لممارسة التفاوض الثقافي من منطلق القوة والتأثير، والحقيقة أنّ هذا الاتجاه لم يعد من النوافل بل هو ضرورة حتميّة ليس للحفاظ على الهويّة فحسب، إنما للحفاظ كذلك على الأراضي العربيّة من المطامع الخارجيّة، بعد أن بدت أنيابها تتكشّف علانية لاستلاب كل ما هو عربي.