د. سعد بن عبد العزيز الراشد
في الوقت الذي كانت فيه مصر العروبة والحضارة، تحتفي رئيساً وحكومة وشعباً بخادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- في زيارته التاريخية لمصر، ومعه بشائر الخير ليس لمصر وشعبها فحسب بل للمملكة والعالم العربي والإسلامي،
حتى بدأت وسائل الإعلام المصرية ومواقع التواصل الإلكتروني، تتسابق في إشغال المجتمع المصري -خاصة- بقضية الجزيرتين السعوديتين (تيران وصنافر)، وما تضمنته من غمز ولمز حول العلاقات بين الحكومتين والشعبين. وقد سارعت الحكومة المصرية خلال هذه الزيارة غير المسبوقة، بإصدار البيانات الرسمية من مجلس الوزراء المصري، ومجلس الشعب، مؤكدة أن الجزيرتين المذكورتين يتبعان حكومة المملكة العربية السعودية، وتقعان ضمن الحدود السعودية. ويشكر فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي على كلمته التوجيهية للقيادات المصرية ولمجلس الوزراء التي حسم فيها الأمر بعدم الخوض في موضوع الجزيرتين لأن هناك أفراداً وجماعات، لا يهمهم مصلحة مصر، ولا العلاقة التاريخية التي تربط البلدين. والحمد لله على أنّ الحكومة المصرية بقيادة فخامة الرئيس السيسي، أطفأت أفواه وأقلام المنتفعين، الذين ما زالت في عقولهم رواسب صدئة من شعارات القومية والفوقية والشيفونية، التي كانت لها عواقب وخيمة على مصر وشعبها في الداخل وعلاقتها مع أشقائها المخلصين في الخارج وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية.
ولم يكن بودي أن أكتب في موضوع الجزيرتين وما أثير حولهما من زوبعة إعلامية هوجاء غير موزونة، إلاّ بعد قراءتي ومشاهدتي لعدد من المقالات والبرامج الحوارية على بعض القنوات المصرية الحكومية منها والخاصة، ووجدت أن فيها مساساً بتاريخ المملكة وبعدها الحضاري. فقد خصّصتْ قناة النيل الثقافية حلقة في برنامج «أما بعد»، أسماها مقدم البرنامج: «قراءة في رسم الحدود المصرية»، أي «تاريخ الحدود المصرية القديمة»، وكان ضيف الحلقة، الإعلامية انتصار غريب. وللأسف فقد قالت كلاماً لا يليق بأرض الجزيرة العربية وحضارتها، ولا بمكانة المملكة حاضنة الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين، ووجهتهم من أقاصي الأرض. ومما قالته إنّ تاريخ تبوك يكشف أحقية مصر تاريخياّ في جزيرتي «تيران وصنافر»، وأن الشّعب المصري الأقدم في التواجد تاريخياً في هذه المنطقة وقت كانت الجزيرة العربية «السعودية حالياً»، يسكنها الرمال فقط، ومِنْ غير سُكاّن من آلاف السنين، في الوقت الذي كانت مصر دولة متكاملة الأركان، والدليل -كما تقول- من الآثار والقرآن، ومستشهدة بالكشف الأثري لباحثين سعوديين عن خرطوش للملك رمسيس الثالث عثر عليه على واجهة صخرية في تيماء. وللمعلومية فهذا الملك حكم مصر في الفترة (1186-1155 ق.م.)، بعد أن تربع على السلطة لما يقارب من ثلاثين عاماً، وانتهت حياته بقطع عنقه نتيجة مؤامرة نسائية في البلاط الملكي في صراع حول وراثة العرش. وتزعم هذه الإعلامية (الغريب)، أنّ الاكتشاف المشار إليه (الخرطوش) يعزز القول إنّ وصول رمسيس الثالث إلى هذه المنطقة كان أقدم من تواجد البشر في منطقة تبوك، وأنّ الملك رمسيس كان يقود حملة لتأمين الحدود من كل الجهات، وأن هذا يثبت أن جزيرتي تيران وصنافر هي ملك لمصر بصفتها الدولة الأقدم، والأول والأوحد منذ آلاف السنين، عندما كانت مصر دولة متقدمة ولها حدود برية وبحرية وأسطول وجيش، كان معظم الجزيرة العربية «السعودية الآن» شبه خالية من السكان. وتستشهد هذه الإعلامية (عبثاً) بالآية القرآنية على لسان سيدنا إبراهيم رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ .
وتقول الإعلامية (الغريب) التي يصفها مقدم البرنامج أنها مهتمة بالشأن الأثري والباحثة في الحضارة، إنّ عرب الجزيرة، عند مجيء سيدنا إبراهيم
-عليه السلام- لم يكن لديهم وسيلة للتنقل سوى الحمير لأن الجمل لم يصل للجزيرة العربية إلاّ في الألف الثاني ق.م، «يا للهول» -كما يقول عميد المسرح العربي نجيب الريحاني- فمن مهازل العصر أن نسمع هذه الثرثرة التي تدل على السذاجة والجهل، ووداعاً لثقافة مثل هذه تُبَث من خلال قناة النيل الثقافية. فمصر غنية بالعلماء في التاريخ والآثار والحضارة، ومنهم من تتلمذنا على أيديهم وفي مقدمتهم الدكتور عبدالعزيز صالح -رحمه الله- الذي لو سمع ثرثرة هذه (الدعيّة) الإعلامية، لسَحَبَ منها شهادتها الجامعية، أما بحثها الذي تقول إنها نشرته عن الآثار المصرية القديمة في الجزيرة، فسماعك بالمعيدي خير من أن تراه -فقط أربع ورقات -نقولات وحشو- ولا يمت للبحث العلمي بصلة.
إنّ الاستشهاد بالآيات القرآنية من غير العارفين، بكتاب الله وأحكامه، يعتبر شيئاً من العبث، فمجيء إبراهيم عليه السلام إلى «وادٍ غير ذي زرع» - وادي إبراهيم-، حيث البيت الحرام والكعبة الشريفة بمكة المكرمة، كان بتقدير ربّاني، ليتدفق ماء زمزم رقراقاً، ويَدلُ على إحدى المعجزات المادية الملموسة على كرامة المكان، وعلى مكانة كل من سيدنا إبراهيم وولده سيدنا إسماعيل وأمه الصديقة هاجر عند رب العالمين، وتكون هذه البقعة أرضاً مباركة، لنبيه إبراهيم في الدعوة إلي دين الله الخالق -وهو الإسلام- الذي علّمه ربنا
-تبارك وتعالي- لأبينا آدم -عليه السلام- لحظة خلقه، وأوحاه إلى عدد من أنبيائه ورسله، -ثم انحرف الناس عن ملة التوحيد الخالص فعبدوا الأصنام والأوثان وأشركوا بالله الواحد الأحد.
قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ثم في قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وبإعادة بناء البيت الحرام (الكعبة الشريفة) بدأت الجزيرة العربية مرحلة انتقالية في تاريخها الحضاري والديني، ويتجسد ذلك في دعوة إبراهيم الخليل -عليه السلام- للعالمين، كما في الآية الكريمة وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . والناس هُنا هم شعوب وسكان المراكز الحضارية في الجزيرة العربية، والأمم الأخرى خارجها. والله سبحانه وتعالى كرّم أرض الحرمين بأن جعل فيها خاتم الرسالات في البقعة المباركة في مكة المكرمة، عندما نزل الوحي على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، وفي قوله تعالى إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
والجزيرة العربية التي تشغل المملكة أكبر رقعة جغرافية فيها، شهدت منذ الأزل تتابعاً حضارياً أقدم من أي حضارة في الشرق الأدنى القديم، وشكّلَ موقعها جسراً للتواصل الحضاري مع الشعوب والأمم على مر العصور. وقد كشفت البحوث والدراسات الأثرية عن وجود آلاف المراكز الحضارية، يزيد تاريخ بعضها المواقع مليون عام، وتوضح آلاف الرسوم الصخرية أنّ الجزيرة العربية شهدت رخاء ورغداً في العيش، في فترات كانت أوديتها وسهولها خضراء معشبة ذات بهجة، ويعود تاريخ بعض الرسوم الصخرية إلى أكثر من 17 ألف عام من الوقت الحاضر، فمشاهد الحيوانات وتنوعها (من جمال وخيول وأسود وأبقار وحمير، وكلاب وطيور وغيرها)، تأكيد على استئناسها، والتعامل معها قبل أي مراكز حضارية في أي بقعة من العالم. وللمعلومية فقد ثبت أن استئناس الخيل بدأ في أرض المملكة في القرن 9 ق.م، واستئناس الجمل في العصرين (النيولوثيكي والكالكيوليثيكي) -حوالي (4500-3500 ق.م.)-، وأن حضارة تيماء (بمنطقة تبوك) تعود إلى الألف الثالث ق.م. أما الكتابات والنقوش العربية القديمة المكتشفة في المملكة، فغزارتها وتنوعها وتتابعها التاريخي-ليس له مثيل في أي بلد آخر- وتوضح في منظومتها المكون الثقافي للجزيرة العربية، ومنها الكتابات الآرامية، والمسند، والكتابات الدادانية واللحيانية، والنبطية لينتهي هذا التسلسل إلى الخط العربي الذي بدأ في التشكيل من منتصف القرن الثالث الميلادي. ولن أضيف المزيد من السرد، فالموقع الإلكتروني للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني سَهْلُ الوصول إليه، وسيجد المهتمون تفاصيل مفيدة عن النهضة الأثرية في المملكة العربية.
وأخيراً نصيحة للإعلامية (انتصار غريب) ومن سار على نهجها، ولقناة النيل الثقافية خاصة، البعدُ عن تشويه وتلويث تراث مصر وحضارة بهذه النظرة المتعالية، وعلينا أنْ نجعل من التراث والموروث الحضاري العربي، وتنوعه، مكوناً للوحدة الحضارية بين المملكة والجزيرة العربية وبلاد النهرين والشام، هذه المنطقة التي شهدت بواكير الحضارة في العالم، وظهور الأنبياء والرسل فيها، وخصّ الله أرض العرب بخاتم الأنبياء والمرسلين. وبرسالة الإسلام الخالدة. والشواهد الأثرية الوافدة -التي اكتشفها علماء الآثار في المملكة وفي أنحاء من الجزيرة العربية-، المصرية والآشورية واليونانية والرومانية لا تَدل عن هيمنة أو نفوذ، بل تؤكد على التواصل الثقافي والتجاري، وتبادل المعرفة والمنفعة، وأن الجزيرة العربية كانت وما زالت جسراً للتواصل الحضاري على مرّ العصور. هذا ما يجب أن يكون، وهو ما نؤكد عليه في المملكة وفي دول الخليج العربي، ونحن لا ينافسنا أحد على حب مصر حتى المصريين أنفسهم.
ورد في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرضٌ يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورَحِماً».
والله من وراء القصد.