د. سعد بن عبد العزيز الراشد
تُعد العلا واحدة من أهم المحافظات في المملكة العربية السعودية، لما تتميز به من موقع جغرافي وتنوع في الإرث الحضاري ومكوناتها الطبيعية، ووجودها على طريق التجارة العالمي في العصور القديمة، وزادت مكانتها في صدر الإسلام مروراً بالعصور الإسلامية المتعاقبة، وازدهرت المنطقة مع نمو وتطور طرق الحج التي تمر بها من الشام ومصر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ومن الآثار الإسلامية التي تحتضنها جبال العلا ومرتفعاتها الصخرية الكتابات الإسلامية المنتشرة في كافة أرجائها. وقد أحسنت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في تشجيع منسوبيها من المتخصصين في الآثار والتراث الحضاري إلى البحث العلمي الميداني، إما بمشاركتهم في أعمال المسح والتنقيب الأثري، أو في تمكينهم من مواصلة دراساتهم العليا لمرحلة الماجستير والدكتوراه في حقل الاختصاص في الجامعات السعودية أو ابتعاثهم للخارج.. ولم تكتف الهيئة بحصول منسوبيها على الدرجات العلمية، بل تولت نشر وإصدار مؤلفاتهم ورسائلهم العلمية من منطلق مسئوليتها في المحافظة على آثار المملكة والتوعية والتعريف بها، وإبرازها بجميع الوسائل المتاحة.. وقد ضاعفت الهيئة هذا الاهتمام، تعزيزاً لأهداف مشروع خادم الحرمين الشريفين للعناية بالترث الحضاري للمملكة، لكونها مهد الإسلام وجسراً للتواصل بين قارات العالم منذ أقدم العصور.
ومن الدراسات العلمية الجديدة التي نعرضها في هذه المقالة، بحث لدرجة الماجستير قدمه الباحث جهز برجس الشّمّري، لجامعة الملك سعود، وموضوعه «الكتابات الإسلامية في موقعي أم درج وأبو عود بمنطقة العلا»، ونشرت الدراسة ضمن سلسلة الدراسات الأثرية المحكمة، عام 1435هـ - 2014م.
فقد جمع الباحث من موقعين متقاربين يقعان إلى الشمال من بلدة العلا التاريخية بمسافة 8 أكيال تقريباً، عدد خمسة وعشرين نقشاً إسلامياً من موقع أم درج، وخمسين نقشاً من موقع أبو عود، فيكون مجموع النقوش التي شملتها دراسته (75 نقشاً)، وكما يقول الباحث (جهز)، هناك نقوش أخرى عديدة غير مقروءة بسبب طبيعة الصخور الرملية التي تعرضت لعوامل التعرية. اشتملت النقوش الإسلامية المكتوبة على الواجهات الصخرية على آيات قرآنية وأدعية مأثورة ونصوص أدبية شعرية، وتتضمن أسماء لشخصيات، نقشوها بأنفسهم، أو كتبت عنهم مقرونة بأسماء الكنى والألقاب والمهن لتلك الشخصيات.. وتعود تواريخ هذه النقوش إلى الفترة ما بين القرن الأول والرابع للهجرة، منها نقشان مؤرخان، أحدهما من موقع (أبو عود) مؤرخ بسنة 216هـ، وآخر من موقع أم درج مؤرخ بسنة 296هـ.. وجاءت الأسماء الواردة في هذه النقوش: مفردة، وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية التركيب.. ومن قراءتنا لهذه الدراسة يتبين لنا الجهد الذي بذله الباحث في تحليل نصوص النقوش ومضامينها، وأساليب الكتابة الخطية وترجيح تواريخها، المبنيّة على أنواع الخطوط، والمقارنات مع نقوش أخرى، ومن أسماء الشخصيات الوارد ذكرهم في تلك النصوص. اتبع الباحث في هذه المنهج العلمي في توثيق النقوش بتصويرها فوتغرافياً، وتفريغ نصوصها، وتبويبها في جداول، موضحاً أنماطها وصيغها اللفظية وفتراتها التاريخية.. وقد استفاد الباحث من الدراسات والأبحاث السابقة عن آثار محافظة العلا، ومنها أعمال المسح الأثري لوكالة الآثار والمتاحف المنشورة في حولية أطلال، والأبحاث العلمية للدكتور عبد الله آدم نصيف، والدكتور علي بن إبراهيم الغبان، والدكتور حسين بن علي أبو الحسن، والدكتورة حياة بنت عبد الله الكلابي وغيرهم من الباحثين.. ولم يغفل الباحث مصادر التاريخ الإسلامي المبكرة ومنها كتب الطبقات للاستعانة بها في تتبع أسماء الشخصيات الواردة في النقوش الإسلامية، لاستنباط المعلومات المتصلة بأنساب ووظائف بعضهم ومقاربة الأسماء الأخرى مع شبيهاتها لترجيح من يحتمل من تلك الشخصيات أن يكون قد سكن العلا، أو مرّ بها في العصور المبكرة، أو أنهم من سكان المنطقة الأصليين.. ومن الدراسات المميزة التي اعتمد عليها الباحث جهز الشمري، الموضوع الذي نشره الدكتور الغبان عام 1422هـ (2001م)، بعنوان: «فُوَيْق: مورد على طريق الحج الشامي - دراسة في تحقيق موقعه وعلقته بالطريق»، الذي خلص فيه الدكتور الغبان إلى أنّ (فُوَيق) الذي ذكره ابن فضل الله العُمري، في كتابه مسالك الأمصار، باسم «مُسْتَجدّ الورود»، أنه هو ذاته (موقع أبو عود) الذي جمع منه الباحث الشّمري خمسين نقشاً إسلامياً.. وابن فضل الله العمري توفي - رحمه الله - سنة 749هـ، وقد مرّ بهذا الموقع سنة 722هـ، وأسماه «فُوَيْق»، وتوقف عنده ووصفه وصفاً جميلاً دقيقاً، وقال عنه إنه «من عجائب الأرض»، لأنه مُسْتمْسكٌ للمياه، في ساحة رحبة تحيط بها الجبال، وأنه إذا امتلأ بمياه الأمطار يكفي أهل الحجاز وتهامة سنة كاملة.. ونود التنويه هنا أن الدكتور الغبان رجع إلى نسخة مخطوطة - مسالك الأبصار- التي نشرها فؤاد سزكين، السفر الثاني، طبعة 1408هـ (1988م)، وأخذ منها اسم «مستجد الورود» الذي هو «فُوَيْق»،المعروف اليوم عند أهل العلا بمسمى (أبو عود)، لكننا نعتقد أن مسمى «مستجد الورود»، ربما تحريف لكلمة (مسجد)، فقد ورد في نسخة كتاب (مسالك الأبصار) التي نشرتها دار الكتب العلمية عام 2010م، بتحقيق مهدي النجم وإشراف كامل سلمان الجبوري (الجزء الثاني، ص: 344)، أن الموقع هو (مسجد الورود)، ونميل إلى هذه القراءة، حيث لا نستبعد وجود مسجد للصلاة في هذا المكان، قبل الدخول إلى حيث يوجد حوض تجمع المياه، لكون الموقع مورداً للمياه، ويستفيد منه قوافل الحجيج والقاطنون في العلا.. وقد ضمّن الدكتور الغبان في تحقيقه لموقع (فُوَيْق) خمسة وعشرين نقشاً إسلامياً، ونستغرب أن الباحث جهز الشمّري، لم يذكر في دراسته من هذه المجموعة سوى ثلاثة نقوش فقط، ذات الأرقام (11،14،15)، وكان بإمكانه تضمين تلك النقوش مجتمعة في ملحق خاص بها، للاستفادة من مضامينها في الدراسات التحليلية، خصوصاً أن من بينها نقشان مؤرخان أحدهما بسنة 83هـ، والآخر بسنة 266هـ، إضافة إلى أن النقوش غير المؤرخة التي درسها الدكتور الغبان تُعد إضافة مهمة لهذا البحث القيّم.
ومن الأمور المهمة في دراسة النقوش الإسلامية، التثبت الدقيق لأسماء الشخصيات الواردة فيها، لأهميتها في التوثيق التاريخي ليس للنصوص الكتابية فحسب، بل في ارتباطها بالموقع والأحداث التاريخية للفترة الزمنية التي كتبت فيها، وهناك تأتي دقة الباحث في تتبع ومقارنة أسماء الشخصيات الواردة في النقوش مع الأسماء التي سجلتها المصادر التاريخية خصوصاً - وكتب الطبقات، والأنساب، والمعاجم الجغرافية والشعرية والأدبية.. وأجزم أن أسماء الشخصيات المسجلة في النقوش الإسلامية في العلا وفي غيرها من مناطق المملكة، لها أهمية عالية على غرار المصادر التاريخية المبكرة وكتب الطبقات، وغيرها من المصادر، وقد تكون مكملة للمعلومات الواردة فيها أو مصححة لها.
والخلاصة، إن الفترة التاريخية التي دونت فيها هذه النقوش على الواجهات الصخرية وفي أماكن متقاربة داخل المضايق الجبلية وفي التجاويف الصخرية، بالقرب من بلدة العلا، يؤكد أهمية هذه المنطقة على مسار طرق الحج بين الشام ومصر، بالإضافة إلى كونها مركز استقرار بشرياً، تلتقي فيه الحضارة الإسلامية المبكرة مع حضارات ما قبل الإسلام، فبعض هذه النقوش كتبت على واجهات صخرية تظهر فيها نصوص لحيانية ودادانية ورسوم حيوانية وآدمية، وهذا ما نسميه بالتتابع الحضاري في هذا الحيز الجغرافي.. وإن هذه الدراسة التي قدمها جهز الشمري مع غيرها من الدراسات السابقة في العلا وفي مناطق المملكة ستكون مفيدة ليس من الجانب الآثاري والحضاري بل من أهم المصادر للتاريخ الإسلامي.