د. سعد بن عبد العزيز الراشد
نشرت جريدة الحياة قبل فترة، في عددها الصادر في 10 ربيع الثاني 1436هـ (30 يناير 2015م) خبراً مضمونه أن السعودية وجهت باعتماد الخرائط الموثوقة والصحيحة للمملكة لاعتماد المسمى الصحيح للخليج وهو (الخليج العربي)
واتجهت الحكومة إلى مخاطبة الجهات الخارجية وإبلاغها بضرورة تغيير خطاباتهم ومراسلاتهم التي تحمل مسمى (الخليج الفارسي) والتي ترد للمملكة. ويأتي هذا التوجه بعد رصد عدد من الحالات التي تم خلالها استخدام خرائط تحوي مصطلح «الخليج الفارسي».
والواقع أن هذه خطوة مهمة جداً من جانب المملكة، ونتمنى أن يعقبها خطوات مماثلة من بقية دول مجلس التعاون والجامعة العربية، خاصة في ظل الاستهتار الإيراني بدول المنطقة ككل والتدخل في شؤونها الداخلية. إيران لم تُقَدّرْ حقوق الجوار وتضرب بمصداقية التاريخ عرض الحائط، باستمرارها في احتلالها لجزر الأمارات العربية المتحدة (أبو موسي وطنب الكبرى وطنب الصغرى) منذ العام 1970م. والزائر لطهران وأصفهان والأقاليم الواقعة على السهل الداخلي غرب إيران المحاذي لساحل الخليج سيجد أن الطرق السريعة مزروعة بلوحات إرشادية عليها اسم «خليجي فارس»، زيادة في تأكيد فارسية الخليج، وتعمل إيران بخطة ممنهجة في طمس هوية الشعوب العربية ذات الجذور الأصيلة في الجغرافيا السكانية، حيث عمدت إلى تغيير مسميات الأقاليم مثل إقليم « خوزستان» المعروف تاريخياً باسم «عربستان»، وتنفذ إجراءات تعسفية تجاه العرب السنة تحديداً، وحرمانهم من حقوقهم الدينية والثقافية والمساواة والعدالة في ممارسة حياتهم المعيشية، وهذا ما يخالف الاسم الذي اتخذته - لنفسها «جمهورية إيران الإسلامية»-، بعد الثورة على الشاه.
وعلى الرغم من أن إيران عضو مؤسس في منظمة التعاون الإسلامي، لكنها غير صادقة في تحمل مسئوليتها - حسب بنود ميثاق المنظمة- الذي يتضمن الحفاظ على القيم الإسلامية النبيلة المتمثلة في السلام والتراحم والتسامح والمساواة والعدل والكرامة الإنسانية، والسعي من أجل العمل على تعزيز دور الإسلام الرائد في العالم مع ضمان التنمية المستدامة والتقدم والازدهار لشعوب الدول الأعضاء.
إن الصفة - الإسلامية- بالنسبة لإيران لا يمت للإسلام في شيء، سوى بث الفرقة بين الدول والشعوب الإسلامية، وتأجيج الفتن والنزاعات، ومحاربة الإسلام والمسلمين في السر والعلن في كافة أرجاء الأرض. تتعمد إيران تزييف الحقائق التاريخية في المحافل والمؤتمرات الإقليمية والقارية والدولية فيما يخص منطقة الخليج، وعلاقات الدول العربية بعضها ببعض، ولم تبخل على القضية الفلسطينية بإشعال الفرقة والخلاف بين الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع. سخرت إيران كل طاقاتها لضرب المسلمين بكل الوسائل ومنها إعلامها المملوء بالأكاذيب وتسويق المذاهب الفكرية والدينية التي لا تمس للإسلام بصلة. لقد نهجت دول مجلس التعاون لدول الخليج، وفي مقدمتها المملكة سياسة حكيمة في تعاملها مع إيران، لأنها دول تحترم حق الجوار والترابط التاريخي والتواصل الحضاري، والاعتزاز بالموروث الثقافي الذي يمتد من عصور تاريخية بعيدة وامتزج في بوتقة واحدة مع بزوغ فجر الإسلام، الذي انطلق من جزيرة العرب لأنحاء الأرض، فأصبحت فارس وبلدان المشرق الإسلامي مراكز للحضارة الإسلامية المشرقة، ومصانع للفكر والإبداع العلمي والأدبي.
إن مسمى الخليج العربي، ليس فيه اجتهاد، إذ كل الشواهد التاريخية والأثرية والتراثية والهجرات القبلية والاستقرار السكاني على ضفتي الخليج الغربية والشرقية، على مر العصور تؤكّد عروبة الخليج. فكل سواحل الخليج عربية سامية، وقد أكد ذلك المؤرخون والرحالة القدماء وفي مقدمتهم المؤرخ الروماني سترابون الذي زار المنطقة في أواخر القرن الأول ق.م. وبداية القرن الأول الميلادي، وتبعه المؤرخ الروماني بليني في القرن الأول الميلادي، فالأول وجد المدن والموانئ والقرى العربية على اليابسة في الجزء الشرقي من الخليج بما فيها جزر مكتظة بالسكان العرب، وأطلق الآخر (بليني) على الخليج اسم (الخليج العربي). وكان عرب الخليج على مر العصور أمة بحرية انطلاقاً من رأس الخليج في البصرة وحتى عمان وحضرموت واليمن. ويعد الخليج العربي جسراً للتواصل الحضاري بين جزيرة العرب وشرق آسيا عبر بلاد فارس، ومع بزوغ فجر الإسلام ركب العرب المسلمون البحر لنشر الإسلام، ثم تتابعت الفتوحات الإسلامية لسائر بلاد فارس وما وراءها، ودخلت أمم وشعوب في دين الله أفواجاً، وعمر المسلمون المدن والبلدات والأسواق والحصون والموانئ في جميع الأقاليم من المشرق الإسلامي، وتطورت العلوم والمعارف والصناعات والعمارة والفنون في منظومة فكرية وثقافية، مزجت بين الإرث العربي وثقافات الأمم والشعوب المسلمة ومن غيرهم ممن بقوا على مللهم. وأصبحت المدن الإسلامية الواقعة إلى الغرب من إيران المحاذية للخليج والعراق مراكز إشعاع للحضارة العربية والإسلامية، كما كانت الموانئ على الساحل الشرقي للخليج العربي تحكمها أسر وقبائل عربية، ومن أشهر مدن الإسلام في هذه الناحية مدينة سيراف، ولم تقتصر شهرة هذه المدينة التاريخية على كونها مركزاً تجارياً فحسب، بل كانت حاضنة للعلماء في اللغة والأدب والحديث وغير ذلك من العلوم والآثار المعمارية التي كشفها الفرق البحثية الأوربية برئاسة عالم الآثار (David Whitehouse) في هذه المدينة توضح حقيقة الوجود العربي الإسلامي، والمصادر التاريخية والجغرافية تؤكد هذه الحقيقة. إن الحضارة الإسلامية التي بزغت وتطورت واشتهرت في بلاد فارس (إيران اليوم) تكونت تحت مظلة رسالة الإسلام الخالدة، والرجال الذين حملوا الأمانة وغرسوا مفاهيم الدين الحنيف إلى ما وراء بلاد فارس، هم من عرب الجزيرة الخُلّصْ. ونستغرب اليوم عدم إحساس المسئولين الإيرانيين في دولة تحمل اس(جمهورية إيران الإسلامية) بقيمة المسلمين الأوائل الذين انطلقوا من جزيرة العرب، وأخرجوا شعوب بلاد فارس من الظلمات إلى النور، وبفضلهم ازدهرت حضارة إسلامية في مختلف العلوم والفنون، رسخت قيم الدين العظيم وما يشتمل عليه من آداب وفضائل في التعايش والانفتاح.
إيران اليوم، تتنكر لحضارة الإسلام، وإن كانت تلبس عباءة الإسلام بمظهر مختلف، وتجاهد من أجل محو الهوية العربية للخليج، مستغلة الفتن والمآسي التي تشهدها المنطقة العربية والتي أسهمت إيران بشكل كبير في إشعالها. محاولات إيران لتثبيت فارسية الخليج في قائمة الأسماء الجغرافية التابعة للأمم المتحدة تقوم على حجج فاسدة وحيثيات لا تتفق مع النسق التاريخي والجغرافي المشترك بين إيران والجزيرة العربية وبلاد الرافدين. وطالما أن إيران تنهج سياسة عدوانية تجاه دول مجلس التعاون، وتنتهك الحرمة الجغرافية لعدد من الدول العربية والتدخل في سيادتها السياسية، وضربها على وتر (الفارسية) فإن على دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية عدم التسامح أو التساهل مع ما تُروّج له إيران من سفاسف وأفعال تتعارض مع القيم والأخلاق وأدبيات العلاقات بين الدول. إيران ذاتها على جرف هارٍ لكونها بخست شعوبها حقوقهم المشروعة وحرَمتْ الكثير من الشعوب التي تحكمهم (أذر وتركمان وعرب وأكراد وبلوش وجماعات أخرى) من أبسط الحقوق وانتهكت كرامتهم، وفي مقدمتهم المسلمون السنة الذين يشكلون ما يزيد على 25% من نسبة عدد سكان إيران الذي يزيد على 75 مليون نسمة.
لم يعد للصبر حدود تجاه الحملات الإعلامية الإيرانية المسمومة ومعها عملائها في بعض دول المنطقة، تجاه الإسلام وعروبة الخليج. يجب أن نكون واضحين في تعاملنا مع إيران، فهي دولة معتدية على أراض دولة عربية، هي دولة الإمارات العربية المتحدة، وإيران دولة معتدية بتصديرها للسفاحين والمرتزقة لقتل آلاف الأبرياء من المسلمين في العراق وسوريا ولبنان واليمن. إن أدبيات التعامل الدبلوماسي بين الدول، مهما كانت متانة العلاقة وتبادل المصالح معها، عدم السماح لها بتمرير مسمى «الخليج الفارسي» في المراسلات والمكاتبات، أو التسامح في ترويج الخرائط والمطبوعات التي تحمل التسمية الفارسية للخليج العربي. إيران تعمل عن طريق بعثاتها الدبلوماسية في كثير من بلدان العالم التأثير على المتاحف العالمية المشهورة من أجل تغيير مسمى الخليج من (عربي) إلى (فارسي) في العروض المتحفية الدائمة والزائرة، بل إنها ترصد المراسلات الداخلية في بعض الدول المجاورة لها وتحتج عليها بطريقة صفقة عندما ترد في مراسلاتها مسمى (الخليج العربي) متذرعة بأن تسمية «الخليج الفارسي» مثبتة وفقاً للوثائق والمعاهدات الدولية.
إن جامعة الدول العربية بكامل مؤسساتها الثقافية والسياسية والاقتصادية عليها مسئولية للتصدي لما تروّج له إيران بفارسية الخليج العربي، وطمس هوية الشعوب العربية والمسلمين السنة في مناطق متعددة من إيران. وعلى المؤسسات البحثية والمراكز العلمية أن تتحمّل مسئولياتها في توضيح الحقائق عن عروبة الخليج وكذلك الأراضي التي استلبتها إيران بالتواطؤ مع الدول المستعمرة. ونثمّن بهذا الخصوص ما تقوم به دارة الملك العزيز من أعمال بحثية في تاريخ الجزيرة العربية واحتضانها لعدد من الجمعيات العلمية المحلية والخليجية. كما نقدّر الدراسات والبحوث المميزة لسمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي عن تاريخ الخليج العربي على مر العصور، كذلك نشير للمبادرة التي قام بها الأستاذ أحمد عبيد المنصوري، الإمارات العربية المتحدة، بإنشائه (متحف معبر الحضارات) ومكتبة تضم خرائط قديمة أصيلة توثّق عروبة الخليج وتاريخه، وهي ميسرة للاطلاع عليها من خلال الموقع الإلكتروني (www.arabianmaps.ae).
والله الموفق.