عماد المديفر
الدبلوماسية الشعبية المؤثرة هي تلك الجهود التي تنطلق من كون الحوار المتبادل هو الوسيلة المركزية لتحقيق فهم أكثر لأفكار الدولة واتجاهاتها وقيمها ومثلها العليا ومؤسساتها وثقافتها فضلاً عن أهدافها الوطنية وسياساتها الحالية،
ولا تكون هذه الجهود الدبلوماسية ملزمة أو ذات تبعات رسمية، بأي شكل من الأشكال، إذا ما قدمها قادة الرأي والإعلاميون والمفكرون والكتاب.. لكونهم لا يمثلون إلا أنفسهم..لكنها بالتأكيد تعكس فهم نخبة فاعلة من الشارع لسياسات الدولة واتجاهاتها.. وهنا جمال وفاعلية العمل الدبلوماسي الشعبي كجهود منظمة ذات تأثير فاعل على المدى البعيد كقوة ناعمة غير مباشرة، قائمة على الأخذ والرد والنقاش، والإقناع والجاذبية والقبول، بخلاف القوى الصلبة (كالأدوات الاقتصادية والاستثمارية مثلاً)..
هذه الدبلوماسية الشعبية -وكما أسلفت في المقالة السابقة- كانت حاضرة وبفاعلية في زيارة الدولة التي أجراها خادم الحرمين الشريفين إلى الجمهورية التركية الشقيقة، تلبية لدعوة أخيه الرئيس التركي..
فقد اصطحب خادم الحرمين الشريفين بمعيته -أيده الله- في زيارته الرسمية التي استمرت يومين، نخبة من الكتاب والإعلاميين من قطاعات إعلامية متنوعة، مرئيّة ومقروءة، وأعضاء من مجلس الشورى، وعددا من الأساتذة المثقفين والمفكرين، التقوا خلال الزيارة، ورغم قصر الوقت، بعدد من الفعاليات الشعبية والبحثية التركية.. فدشنوا سلسلة زياراتهم بالبرلمان التركي.. حيث أجروا اجتماعاً بعدد من البرلمانيين عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأعضاء في لجنة الدفاع الوطني وجمعية الصداقة التركية - السعودية التي أنشأها حزب العدالة والتنمية في وقت سابق؛ بالإضافة إلى مشاركة فاعلة في مجموعة نقاش مركزة بأحد أبرز مراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركية كان موضوعها (العلاقات السعودية التركية: الحاضر والمستقبل)..
وكنت قد ذكرت في مقالتي السابقة بأن الوفد الإعلامي السعودي حرص كل الحرص على التركيز على الموضوعات الثنائية، ونقاش الموضوعات التي تتطابق فيها الرؤيتان السعودية والتركية وتعزيزها، والاستثمار فيها؛ إلا أن البرلمانيين والباحثين الأتراك اتفقوا على إقحام الشأن الداخلي المصري، رغم تأكيد الإعلاميين السعوديين على سياسة المملكة الثابتة في عدم التدخل بالشأن الداخلي للدول الشقيقة والصديقة..
وكان احد المشاركين في حلقات النقاش الذي أساء كثيراً للسياسات السعودية الخارجية تجاه الشقيقة مصر، وكرر المطالبات بما أسماه «ضرورة الضغط السعودي لتعزيز الديمقراطية في مصر وإخراج المساجين ليتبوأوا مراكز سياسية عليا في الدولة المصرية» -بحسب زعمه- هو البروفيسور محيي الدين عثمان نائب مدير عام مركز (سيتا) للدراسات والأبحاث.. إلا أن مثل هذا الحوار وتبادل وجهات النظر كان جميلاً جداً، ومفيداً جداً.. لتفنيد المفاهيم الخاطئة والادعاءات العارية عن الصحة.. حيث ناقشه بفاعلية كل من الدكتور عبدالسلام الوايل، والأستاذ عبدالرحمن اللاحم، والدكتور عبدالعزيز السبيل.. فيما كانت مداخلة الأستاذ سعيد السريحي من أثرى المداخلات وأعمقها.. استهلها السريحي بالطلب من الدكتور أتامان إعادة قراءة تاريخ تركيا الحديث لتفهم الحالة المصرية على نحو لا يصحح نظرته إليها فحسب، بل ويسهم في إصلاح العلاقة المتوترة بين بلاده ومصر، لكون الأتراك الذين قابلناهم كثيراً ما رددوا بضرورة التحالف السعودي التركي المصري لمواجهة الأخطار المحدقة بالمنطقة.. وهو ما نتفق معهم تماماً فيه.. إلا أنهم يصرون على أن مثل هذا التحالف لا يزال «معطلاً» بسبب «الحالة غير الديمقراطية في مصر، وبالتالي فإن هذا الأمر ينعكس على فاعلية مواجهة التدخلات الإيرانية في المنطقة ونشرها للطائفية» -على حد زعمهم..!
يقول الأستاذ السريحي: «لو أن الدكتور محيي الدين أتامان فكر قليلا ما طالب المملكة أن تستثمر علاقاتها القوية مع مصر لكي تعتمد مصر المنهج الديموقراطي في سياستها، وليس ذلك لأن مصر دولة ديموقراطية اختارت رئيسها عبر الانتخابات، وليس ذلك لأن المملكة تعتبر ما يحدث في مصر شأنا داخليا تنأى بنفسها عن التدخل فيه، وليس ذلك لأننا نعرف أن ما يطالب به الدكتور أتامان يصب في مصلحة جماعة الإخوان المسلمين وهو يعرف أن جماعة الإخوان المسلمين مصنفة لدى المملكة كجماعة إرهابية مثلها مثل حزب العمال الكردستاني لدى تركيا.
لم يكن الدكتور أتامان موفقا حين طالب المملكة بذلك وهو يتحدث في الندوة التي عقدها مركز سيتا بمناسبة زيارة الوفد الإعلامي الثقافي السعودي لذلك المركز على هامش زيارة خادم الحرمين لتركيا..»
لقد َذكّره الأستاذ سعيد بالمشروع الذي قاده أتاتورك الذي تعتبره تركيا بطلا قوميا مؤسسا لتركيا الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.
يقول السريحي مستطردا: « إن تركيا الحديثة لم تتأسس وفق النهج الديموقراطي ولم يصبح أتاتورك زعيما لها وفق برنامج انتخابي ولم تبن حاضرها بناء على مخرجات صندوق الانتخابات الذي يرى فيه أتمان الحل السحري غير القابل للنقاش، الزعيم التركي أتاتورك وضع تركيا على عتبات الدولة الحديثة بقرار تنويري أسس لبناء دولة مدنية تعلم فيها الشعب التركي معنى الديمقراطية على اعتبار أن الديمقراطية نتاج للوعي وليست سببا له.. و لو أن أتاتورك اعتمد الديمقراطية التي تطالب بها وسمح لصندوق الانتخابات أن يحدد مستقبل تركيا لصوت الشعب التركي آنذاك لسليمان القانوني أو أي سلطان عثماني آخر ولما استطاعت تركيا أن تكون على ما هي عليه اليوم».
في رده قال الدكتور عثمان أو «أتمان» أن تركيا احتاجت ثلاث ثورات كي تصل إلى الديمقراطية، غير أنه لم يقل أنها ثورات على النهج الذي أسسه أتاتورك ولم يجرؤ أن يقول: إن تركيا تنقلب على تاريخها الحديث حين تطالب مصر بغير ما انتهجه مؤسسها وتطالب المملكة بالتدخل في شأن مصري داخلي وهو ما لا ترتضيه سياسات المملكة العريقة، الراسخة والحكيمة، ولا تقبله.. وأن على الأتراك أن يكونوا أكثر واقعية، وفاعلية.. ويتعاطوا بايجابية مع الدولة المصرية الشقيقة، القوية والثابتة، وفق الوضع الراهن الذي ارتضاه الشعب المصري، وأن تقف بجانبه، كما وقفت المملكة وغيرها من الدول العربية الشقيقة.. تعزيزاً لمفهوم (الوحدة والتضامن) الذي هو شعار القمة الإسلامية المنعقدة مؤخراً في اسطانبول، ولتوحيد الصفوف لمواجهة خطر الإرهاب والطائفية اللذين تقف خلفهما دولة الإرهاب الأولى في العالم.. دولة عمائم الرجعية والظلام في طهران.
إلى اللقاء.