د.عبدالله الغذامي
كل من عرف الدكتور عبد الله العثيمين لاحظ فيه الهدوء ولطف المعشر ورخاء اللغة، ولكنه في حقيقته ينطوي على سريرة عالية الهمة وقد دفع أثمانا لقوة رأيه وشجاعة موقفه، أولها حين كان في السنة النهائية في المعهد العلمي، وليس بينه وبين الجامعة سوى شهور فتفاجأ بقرار يأتي بفصل سبعة طلاب هو على رأسهم وكانوا كلهم أصحاب نشاط ثقافي غير مؤسساتي وكأن المؤسسة أرادت أن تتبرأ منهم ولكنهم جميعا شقوا طريقهم عبر تغيير المعهد ودرسوا في مدارس أخرى حتى وصلوا للجامعة، وكان هو من الدفعات المبكرة في جامعة الملك سعود (1380 / 1960) وما لبث أن فصل من الجامعة لأنه كتب مقالة ينقد فيها مناهج الجامعة وتكالب عليه عدد من الأساتذة العرب المتعاقدين في الجامعة وتمكنوا من استصدار قرار بفصله، ومرت شهور عدة ومحاولات عدة إلى أن تمكنت المحاولات بإعادته للدراسة.
وعبد الله العثيمين يمثل لي ولجيلي ذاكرة ثقافية ووطنية، وهي ذاكرة تصنعت على مدى أكثر من ستين عاما، ابتدأت وأنا تلميذ صغير في الابتدائية ومع تفتح الوعي العروبي الاستقلالي وحادثة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان كل ما يحيط بي يشتعل وطنية وعروبة وحماسا بدءا من مجالس أهلي، جدي ووالدي، إلى المدرسة في جو الأساتذة والطلاب، ومع عدد من شعراء عنيزة، ومن أبرزهم عبد الله العثيمين، ذاك الفتى النحيف المشتعل عروبة ووطنية وهو يلقي قصائده المدوية باسم الأمة والعزة والكرامة والتحدي للمستعمر وكانت أسماء إيدن البريطاني والصهاينة المعتدين تتردد في أبياته، وكان له موهبة خاصة في الإلقاء، وكنا نحن نمثل شحنات من الحماس والحيوية حتى لكأننا على قناة السويس نشارك في تأميمها ثم الدفاع عنها ضد المعتدين، تماما كما شارك أسلاف لنا من أهلنا وأقاربنا في حفرها حين حفرت، وكانت قصصها تروى لنا في مجالس الأهل، مثلما صرنا نسمع الإذاعات وهي تزجر بالمجد والاستقلال، وشعراؤنا أمامنا يحيون الأمسيات شعرا وخطابة وعروبة واستقلالا، وزاد على هذا ما كنا نوالي السماع له في نادي المعهد العلمي من مسرحيات تمثل وأمسيات شعرية كان العثيمين من أهم أبطالها، ثم في النادي الأدبي في عنيزة، وهو ناد أسسه الشباب الأدباء بجهدهم وحماسهم عام 1372هـ ( 1952 ) وظل لسنوات وكان أثره يصل لبيروت والقاهرة، مثلما كان يجلب لنا نحن الصغار مستخرجات تلك البقع العربية من كتب ومجلات، وهذا أسس لنا ذاكرة وطنية وثقافية استمرت معي خاصة، وتقوت حين ابتعثت إلى بريطانيا عام 1971، حيت لحقت على آخر أيام عبد الله العثيمين في البعثة وصاحبته لشهور في أدنبره / اسكتلاندا، وتعرفت عبره على دقائق الوسط العلمي والثقافي في اسكتلندا وعلى الطلبة العرب هناك بكل تكويناتهم السياسية إلى جانب مناشط اتحاد الطلاب في الجامعة، وقد سبقني الدكتور العثيمين إلى هناك بسنوات ثمان، وهذا اختصر لي زمن التعرف والكشف، ولم يغب شعره عن أيام بريطانيا وفي كل جلسة كانت القصائد تحضر، وكنت أستدعي منه بعض القديم منها زمن الخمسينات، كما أن مجلسه يعمر بالوعي السياسي والتحليلي وطنيا وعروبة، وزادته بريطانيا تفتحا على أسرار الخطاب السياسي، وبما أنه مؤرخ فقد انشغل بتتبع الوثائق التاريخية حول الاستعمار وعلاقة بريطانيا مع العرب أرضا وسياسة ورحلات وتشابكات، وكانت كل هذه الخبرة عنده تنتقل لنا عبرسترسالاته المشهورة عنه حين الحديث وتنوعات مخازن ذاكرته مع ذكائه الحاد ورؤاه الثاقبة، ويتوج هذا قدراته الفائقة حين يدخل في مناقشات عامة مع البريطانيين، حين يحضر لمحاضرة أو محاورة على هامش بعض المظاهرات أو التجمعات السياسية، وتحضر فيها قضية فلسطين ويتطاول بعض اليهود في القول والتزييف للوقائع، وكم كنت أنبهر لطريقة عبدالله العثيمين في التعامل معهم بهدوء وسكينة وبلغة سلسة ومنطقية بعيدة عن الانفعال والتشنج على عكس بعض من عرب حزبيين كانوا لا يحسنون إدارة القول مع البيئة البريطانية المعهود عنها برودة الأعصاب مع الاعتماد على المعلومة وقوة البيان، ولم أر مثل العثيمين في مهارات الرد، وكثيرا ما يجعل رده على شكل أسئلة ملغمة تقلب مسار القول، وكان يفعلها عن موهبة وتلقائية وليس عن تخطيط، ولهذا لا تباغته المفاجآت النقاشية، خاصة مع حضور ذهنه بكنوز من المعلومات والتواريخ والإحالات، مع لغة إنجليزية بسيطة وسلسة تشبه سلاسة ذهنه وهو يتدفق بالرأي والمعلومة وكأنه يتحدث من سعة صدر وبرودة هادئة، مع أنه يحترق من الداخل غيرة ووطنية وقهرا من الزيف والكذب، لكنه لم يكن يسمح لمشاعره أن تفسد مهمته التنويرية في توصيل رسالته الوطنية.
لم تدم فترتنا معا في بريطانيا حيث عاد محملا بالدكتوراه عام 1972، وبقيت أنا خمسة أعوام من بعده، ثم جمعتنا جامعة الملك سعود من بعد سنوات، حيت تجاورنا في مكاتب الكلية وتجاورنا في السكن، وصارت العلاقة يومية وبكل وجوهها الاجتماعي والثقافي، وعشت مع مشروعه المهم في مراجعة المناهج الدراسية، وكان سببها أنه كان يذاكر لأولاده وهاله الترهل والتكرار والتعقيد في مناهج هي في أصلها للتعليم وتحبيب العلم للصغار ولكنه صارت في بعض وجوهها تعقد حتى الكبار المتخصصين وتثقل عليهم، واشتغل على مقترح موسع شمل كل مناهج اللغة والدين والاجتماعيات وسخر وقته للعمل لشهور وهو حابس نفسه في العمل، ثم قدمه للوزارة في عهد الدكتور الخويطر وعقدت لهذا الغرض جلسات مطولة ومعقدة في الوزارة، رأس بعضها الوزير وحضرها كلها الدكتور العثيمين، وفيما أعرف فقد أيد الشيخ محمد العثيمين معظم المقترحات، وكان عبد الله ينقل لنا دوما وقائع الجلسات،ويظهر حسرات موجعة على تعنت بعض من يسمون حينها بالأسرة ( أسرة اللغة العربية، أسرة التاريخ...إلخ ) وهي لجان متخصصة في الوزارة وكانوا يصرون على نجاعة ما عندهم ويتعنتون أمام أي نقد أو مقترح، وقد دفع الدكتور العثيمين أقساطا باهظة من مشاعره وتحسره بسبب تعنت اللجان. وحينما غادر الدكتور الخويطر الوزارة تعطلت مشاركة العثيمين ولم يجر استدعاؤه بعد ذلك لأي مناقشة في هذا الأمر، وأنا أشير لهذا لسبب واحد هو أن القصة كانت حسرة في قلبه، رحمه الله، وكان يتوجع من أجل الجيل الصغير وكيف نسمح لأن تكون المناهج عبئا ثقيلا على كاهله، كاهله الحسي حيث تقص الحقائق الثقيلة ظهره، مثلما تثقل على عقله وتفهمه. ألا رحمة الله عليك يا أبا صالح لقد عشت عمرك في صلاح ووطنية وصدق، وعشته بنفس رخية ولسان عف وقلب مخلص، وغرست فينا المحبة والوطنية وصدق العزيمة.