عبدالعزيز السماري
كان ظهور علم النفس بوابة الوعي بحقوق الإنسان؛ فقد سلط الأضواء على قضايا الشذوذ عن القاعدة، وكشف عن البعد النفسي لحالات التعسف والاستبداد، كما قدم تفسيرات لمتلازمات التلذذ بالألم، ولاضطهاد الآخرين، التي تعاني المجتمعات منها كثيرًا، لكنها غير قادرة على إدراك أسباب كآبتها الدائمة وإدمانها لحالة الاضطهاد المزمنة، ومن ذلك خرجت مقولات مثل قابلية الاستعباد وغيرها.
دائمًا ما توجد فئات اجتماعية يعلنون أحيانًا تأييدهم العلني للممارسات الخارجة عن المبادئ العامة، ولمناصرة انتهاك حقوق الآخرين والاعتداء عليهم، والأكثر ألمًا أن تقدم تفسيرات دينية لتبرير حالات الاعتداء وضرب الآخرين. ويفسِّر شيئًا من ذلك تلك الحالة المشبعة بالكراهية في الشرق العربي، وكما يفسر استخدام القهر لفرض بعض المفاهيم الدينية.
كان أول ظهور لمصطلح السادية في الفترة ما قبل وبعد الثورة الفرنسية في عام 1789 ميلاديًّا. والسادية مصطلح مشتق من اسم الروائي الفرنسي النركيز دو ساد، الذي اشتُهر بممارساته العنيفة مع النساء ومجونه العظيم، بينما اشتُقت المازوخية من الروائي النمساوي ليوبولد مازوخ الذي كتب رواية (فينوس ذات الحلل الفروية).
كانت روايته تحتوي على ممارسات مازوخية، جسدت بعضًا من حياته. حاول كثيرًا قبل موته تغيير اسم هذه الحالة إلى آخر، لا يشتق من اسمه، لكنه فشل، وحاول من بعده ابنه لكنه أيضًا فشل؛ فالتصق مفهوم المازوخية والخضوعية بمازوخ، وكان هذا بمنزلة عار لرجل في ذلك الزمن.
ساهمت حالة البوح عند دو ساد ومازوخ في فتح باب الكشف عن ممارسة الاضطهاد بمختلف جوانبه، كما أدخل وصف متلازمتي السادية والمازوخية في أهمية الوعي باحترام الذات وحقوق الإنسان، وفضح تلك الممارسات التي تتلذذ باضطهاد النفس أو الآخرين. وتعرف السادية على أنها تتجسد في إيقاع الألم على الطرف الآخر، بينما تعني المازوخي التلذذ بالألم الواقع على الشخص نفسه.
استخدم الإنسان الدين والسياسية والتقاليد للوصول إلى حالة اللذة التي يستمدها من اضطهاد الآخرين. ولن يتسع المجال لسرد الممارسات الخارجة عن القانون والعرف والدين للوصول إلى اللذة، التي توجد في مختلف الثقافات في العالم. وتكرارًا فضح الإعلام الحديث حالات التعذيب في الشارع والمنزل والسجن. ويعاني السجناء أكثر من غيرهم من انتهاك أجسادهم بالضرب والتعذيب المبرح؛ وذلك بسبب بُعدهم عن زاوية الرؤية المباشرة.
لا بد أن يكون الإنسان أكثر وعيًا بوجوه القمع والاضطهاد؛ فالضرب والتعذيب والتجويع والقهر لا يمكن أن تكون وسائل لتقويم الأخلاق في المجتمع، ولا يمكن أن تنجح في تأديب الأبناء أو المخالفين للآداب أو حتى المذنبين في حق المجتمع، لكنها قد تعني في واقع الأمر حالة من المرض النفسي لدى صاحب السلطة، ومن أجل تجاوزها يجب مواجهتها بالإعلام والعلم والتحليل النفسي لكشف وجوه التسلط والتعسف في المجتمع.
ساهم تطور الصورة والإعلام الاجتماعي في فضح صور التعذيب في السجون، ولو كانت خلف الجدران العالية. وتنتشر على صفحات الإعلام صور مروعة لضحايا القضايا السياسية، كان آخرها ما يتم نشره عن ضحايا التجويع في سجون سوريا، وقبل ذلك المقابر الجماعية في صربيا، وفي سجون صدام حسين والقذافي وسجن أبي غريب أثناء فترة الاحتلال الأمريكي.
الموقف من التعذيب ليس قضية اختيارية، وليس أيضًا موقفًا متناقضًا، تغض النظر من خلاله عن تعذيب المختلفين عنك في الهوية أو الدين أو الطائفة، وتعترض بقوة على تعذيب المؤيدين. ويظهر ذلك في الصراع الطائفي، الذي يحكمه العقل السادي والمازوخي في مختلف صوره، وينم عن حالة نفسية موغلة في القدم، وربما نحتاج إلى ثورة في الوعي من أجل الخروج منها.
نحن نعيش في زمن مختلف؛ فقد أحكمت الصورة مختلف أنماط حياتنا، ولم تعد جدران السرية والانغلاق مجدية أمام قدرة الإعلام الشعبي على اختراق الجدران السميكة، وكان آخر صيحاتها أوراق ويكي ليكس وغيرها، التي نجحت في إظهار تلك الصورة القبيحة التي تختفي خلف قناع النسر النبيل.
لهذا السبب، ولأسباب عديدة، يجب إدراك أهمية الخروج من استخدام الضرب والتعذيب والاضطهاد؛ فالصورة لم تعد حكرًا على المتسلط، ولا بد من الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، وإظهار احترامها شكلاً ومضمونًا؛ وذلك من أجل مجتمع أفضل صحة من الناحية النفسية. والله المستعان.