عبدالعزيز السماري
الحديث عن تجديد الخطاب الديني لا يتوقف في ظل الصراع الحالي بين دعاة الدولة الإسلامية كما طُبقت في طالبان وداعش، وبين دعاة التجديد والتحديث في هذا العصر، وطالبان وداعش مثالان على دولتين حاولتا تطبيق الخطاب الإسلامي المتداول في وعظ المحدثين وخطب الدعاة في هذا العصر، ونتيجة لذلك رفعتا شعار العزلة عن العالم الخارجي، وطبّقتا أموراً لم تَعُد مقبولة في هذا العصر، مثل منع تعليم المرأة، ومنع خروجها من المنزل، وسبي النساء وحرق الأسرى.
الأخطر من ذلك فرض حالة العداء مع الخارج والداخل والحرب المستمرة على طريقة أسلم تسلم، وإذا لا يقبل وجبت عليه دفع الجزية أو قبول حكم القتل واستباحة الدم، ويصاحب ذلك فرض حالة من العسكرة والتضييق الدائم على الحياة الاجتماعية، وتحويل حياة الإنسان إلى أشبه بالمعسكر الحربي، وهذه الحالة لم تأت وليدة شاذة خطاب ديني عصري، ولكن جاءت كنتيجة مباشرة للخطاب الديني السائد.
تناول قضية تجديد الخطاب الديني تصطدم في مقدمتها بمرجعية النقل، فالخطاب الأصولي المعاصر ينكر على هذه الدعوات موقفها الظني من النقل الصحيح، بينما يطرح دعاة تجديد الخطاب أن الخطاب الديني المعاصر جعل من تاريخ صدر الإسلام مرجعية مطلقة للحاضر، ومن خلالها تم تحويل كثير من الأقوال والأفعال الظنية الثبوت إلى حقائق قطعية ومطلقة، ومن خلال هذه النافذة تحول الخطاب الديني عبر أزمنة التخلف إلى خطاب شديد التطرُّف.
كانت مرحلة الستينات والسبعينات الميلادية مفصلية في الخطاب الديني الحالي، وكان نجم تلك المرحلة بلا منازع الشيخ الألباني، والذي بالرغم من توجيه والده المنهجي له بتقليد المذهب الحنفي، وتحذيره الشديد من الاشتغال بعلم الحديث، أخذ التوجه نحو البحث عن الدليل واتباع السنّة واشتغل بعلم الحديث، فتعلم الحديث النبوي في نحو العشرين من عمره متأثرًا بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها محمد رشيد رضا، وكان للشيخ الألباني دور رئيسي في تقديم الأحاديث النبوية للأتباع والتلاميذ كحقائق قطعية الثبوت، وكانت حركة جهيمان وما جاء بعدها من إرهاب وتطرُّف نتيجة لذلك الطرح القطعي للنصوص الظنية الثبوت..
برغم من إجماع أئمة المحدثين أنّ أحاديث البخاري ومسلم التي تلقّتها الأمة بالقبول واتفقت على صحتها في الجملة، منها ما هو قطعي الثبوت وهي الأحاديث المتواترة، ومنها ما هو ظني الثبوت، وهي أحاديث الآحاد وتشمل سائر الأحاديث غير المتواترة. وهذا التفصيل نقله النووي عن أكثر العلماء في العصور الأولى، ويقول الشيخ العثيمين - رحمه الله - بهذا الكلام عن حديث الآحاد في كتابة مصطلح علم الحديث: تفيد أخبار الآحاد سوى الضعيف، الظن وهو: رجحان صحة نسبتها إلى من نقلت عنه، ويختلف ذلك بحسب مراتبها السابقة، وربما تفيد العلم إذا احتفت بها القرائن، وشهدت بها الأصول، وهو ما يعني عدم إطلاقها كحقيقة قطعية ومطلقة، هذا بيت القصيد في مسألة تجديد الخطاب الديني.
فتحت المنهجية الألبانية في قطعية الثبوت للأحاديث الآحاد الباب على مصراعيه لدعاة العنف، فما يقومون به الآن من إرهاب يستندون فيه لأحاديث في كتب الصحاح، ومنها على سبيل المثال ما ورد في الصحاح ويحض على العنف صراحة، ففي صحيح البخاري، كتاب «الجهاد والسير»، باب «ما قيل في الرمح»: «بعثت بين يدي الساعة مع السيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»??
كذلك حديث « يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح؟ « حديث صحيح لكنه أحاد، فهل ينطبق عليه القطع في صحته، أم أنه حديث ظني الثبوت، لا يصح أن يُطلق العمل به كحقيقة مطلقة في الدين، ويدخل في ذلك أحاديث الحرق بالنار، وأحاديث السبي واسترقاق النساء والأطفال.
خلاصة الأمر أنّ شهادة جمهور علماء الحديث لدي أهل السنّة والجماعة بظنية حديث الآحاد وعدم القطع به، لا يمكن تجاوزها في مسألة تجديد الخطاب الديني، كما لا يمكن إنكار الحقيقة الثابتة أنّ هناك المتواتر والآحاد، وأنّ الأحاديث المتواترة قليلة جدًّا، قد لا تصل إلى عدد مائة حديث، وأنّ هذه الأحاديث هي المقطوع بصحتها مائة بالمائة، أما ما سواها فليس هناك نوع مقطوع بصحته مائة بالمائة، بما في ذلك الأحاديث الصحيحة.
أدرك أنّ هذا الطرح قد لا يعجب الكثير، فالأمر تجاوز قضية العلم إلى المصالح الشخصية، فالمحدثون الذين يعيشون على هذا الحال يُصعب حصرهم، فقد تم تخريج عشرات آلاف المحدثين من تلك المدرسة التي تقدم النصوص الظنية الثبوت على أنها حقيقة قطعية ومطلقة برغم من تصنيفها كأخبار أحاد.
ما أريد الوصول إليه أنّ تجديد الخطاب الديني، لا يمكن أن يحدث بدون هذه الرؤية التي تستمد أصولها ومواقفها العلمية من تاريخ الأصوليين وعلماء الحديث في القرون الأولى، وليس من دعاة التنوير في العصر الحديث كما يدّعون..، والله المستعان.