عبدالعزيز السماري
يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير إحياء علوم الدين إذا كان هنالك تضخم في علماء الفقه، فواجب على بعض علماء الفقه الاشتغال بالطب، ويكمل - رحمه الله - أن من واجب الباحث أن لا ينظر بعين الحقارة للعلوم الأخرى، فإذا كان فقيهاً، فيجب أن لا ينظر إلى العلوم التجريبية بعين الحقارة والدونية، ولعل هذه النصيحة مناسبة لنا في هذا الزمن، فقد أصبحنا دولة مصدّرة للمشايخ والفقهاء والمجاهدين، ولو تم استثمار هذه الطاقات في مجال الطب لتجاوزنا ألمانيا وأمريكا في الإنجازات الطبية، لو استثمرناها في الصناعة، لنافسنا كوريا الجنوبية في صادراتهم الصناعية.
وعودة إلى قضية الاشتغال بالطب، فالغزالي كان يقصد بقوله هذا علم تشخيص الأمراض وعلاجها بالأدوية والجراحة، وليس ما يُطلق عليه الآن بالطب النبوي، والذي يُعتبر مجموعة من النصائح الصحية التي لا تصل إلى درجة القطعية، ولكن تعبّر عن ثقافة ذلك الزمن، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تمادى الفقهاء في اختزالها في النفث، والذي لا يخلو من تطاير اللعاب، ويُعتبر وسيلة فعّالة لانتشار الأوبئة مثل الدرن وكورونا وغيرهما من الأمراض التي تنتقل بالرذاذ.
الملاحظ أن أبا حامد الغزالي لم يشر إلى الطب النبوي، وكان يتحدث عن الطب الذي يعتمد على التجربة والاستقراء، وهو ما يطرح السؤال الأهم عن تاريخية الطب النبوي، ومتى تم اعتماده كبديل عن الطب كعلم تجريبي، ولكن ربما حدث ذلك في مرحلة متأخرة، والتي تم تقديم الطبِّ النبوي فيها، كوحي مرسل لعلاج لكثير من الأمراض البدنية، وفيها تصنيف جامع وأمل للداء والدواء، وهو ما يعني أن يكون مرجعاً إلهياً للطب في هذا العصر.
لأنه من الخطأ الجسيم التعامل مع هذه النصيحة (عليكم بأربع، فإن فيهن شفاء من كل داء إلا السام «الموت»، السنا والسنوت والثفاء والحبة السوداء)، على أنها حقيقة مطلقه وقطعية، وذلك لأن الواقع وتجارب الإنسان تخالف ذلك، فعلم تصنيف الأمراض (nosology) أصبح أكثر تعقيداً، ويتطور بصورة متسارعة جداً، وهناك آلاف الأسباب لمرض وموت الإنسان، كذلك تطورت المعرفة الشاملة بالأمراض البشرية وطرق تشخيصها وعلاجها، وهي مرشحة للتوسع، لذلك لا يصح أن يتم تبسيط الأمراض وعلاجها في نصائح صحية عامة.
سيعاني الإنسان المسلم إن اعتقد جازما ًأن في الحجامة الشفاء من كل داء، (مَن احتجم لسبعَ عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، كانت شفاءً مِن كل داء)، حيث لم تثبت التجارب الطبية المتكررة أن الحجامة تشفي من الأمراض، وقد تطورت عبر الزمن إلى وسيلة التبرع بالدم، والتي تقوم بنفس الدور، وهو إخراج جزء من دم الوريد، وقد تساهم في تخفيف أعراض الذي يعانون من تضخم في إنتاج كرات الدم الحمراء والهيموجلوبين، لكن لا تؤدي إلى شفاء المرض لأن الخلل وراثي في كثير من الحالات.
عانت الغالبية من المصابين بالأمراض النفسية ومرض الصرع على وجه التحديد، من تفسيرات الفقهاء لها، فقد كانوا يعظون على أنها أمراض سببها الجن، وتعرض كثيرٌ من المرضى للجلد والضرب والتعذيب تحت عنوان طرد الجني من جسد المسلم، والأهم من ذلك أدى مثل هذا الوعظ إلى تشويه الوعي الصحي، وكان له الأثر السلبي الكبير على صحتهم البدنية، بينما أثبت العلم الحديث أن المرض النفسي خلفه علل كثيرة، من أهمها العامل الوراثي، وأن السبب هو في كثير من الأحيان وجود «جين وراثي»، وليس «جنياً»..
سيكون من الصعب تحديد الفترة الزمنية في تاريخ المسلمين، التي تم فيها اعتماد النقل كمصدر للعلم بمختلف تخصصاته، لكنها حتماً جاء بعد زمن أبي حامد الغزالي وبدء سقوط الحضارة الإسلامية واختفاء الأطباء المهرة والعقول المستنيرة، وربما كان لها الأثر الكبير في تقهقر حضارة المسلمين العلمية، ويفسر ذلك الموقف الشديد السلبية من الإنجازات العلمية خلال القرن الماضي، وكان منها إنكار بعض الحقائق العلمية الثابتة..
خلاصة الأمر أن اعتقاد بعض الفقهاء أن لهم حق العمل كأطباء يعالجون أمراض الناس يخالف نواميس الفطرة، ويصطدم بقوانين العمل المهني، فالطب علم يخضع لتجارب الناس وخبراتهم، ويعتمد مناهج الاستقراء والتجارب والتدوين المستمر، ويحتاج إلى شهادة لممارسة المهنة، وأن إلمامهم بالطب النبوي لا يؤهلهم للعمل كأطباء، وذلك لما قد يؤدي إلى كثير من الضرر على بعض المرضى بسبب تأخير العلاج، كذلك لا يصح مطلقاً أن يكسبوا المال من هذا العمل، وذلك لأنهم غير مصنفين كأطباء، ولكن لهم حق تقديم النصائح، مع تحري الدقة في إطلاقها كحقائق مطلقة، والله المستعان.