عبدالعزيز السماري
ذهنية التطرف والجمود ليست وليدة اللحظة أو نتاج لمرحلة الصحوة الأخيرة، لكنها قد تمثل الأصالة التي نشيد بها من حينٍ إلى آخر، ونمجدها كلما مرت حالة نقدية لتلك العقلية المتحجرة، بينما يُعتبر التنوير أو محاولات تفكيك الذهنية المتطرفة حالة طارئة وجديدة على المجتمع، ولهذا نحن أمام أكبر تحد في تاريخنا المعاصر، فالتطرف والتعصب والتزمت مستقر في أراضينا، ويسكن عقولنا، ويرفض الخروج منها بسلام.
يصعب في هذه المقالة تحديد بداية تلك الحقبة، وكيف استطاعت بعض العقول في عصور الأمية والتخلف تحويل الدين العظيم إلى سجن أشبه بالصندوق المغلق من جميع الاتجاهات، وحالة من العتمة التي تمنع دخول النور والعلم حتى من الثقوب المتناهية في الصغر، وذلك من أجل أن تستمر حالة الظلام في العقول ويستمر التعسف والاستبداد والتسلط كأدوات للتواصل مع الآخرين.
هذه العزلة والانغلاق الشديد ليس لها علاقة بالدين العظيم، فقد ساهم المسلمون الأوائل في إثراء الإنسانية بمختلف الاكتشافات العلمية، ومن أجل فهم ما أريد الوصول إليه أحيل القارئ إلى الاطلاع على كتاب بيت الحكمة لجوناثان ليونز عن إسهامات علماء المسلمين أمثال جابر بن حيان والرازي وابن سيناء وابن رشد والخوارزمي وغيرهم في العلم والاكتشافات العلمية والفلسفة، وعندما ينتهي المرء من قراءة هذا الكتاب ربما يدرك أننا نعيش بالفعل خارج تلك الحقبة المستنيرة.
لم يحدث الانهيار فجأة، ولكن بعد عدة نداءات أطلقها بعض الفقهاء تحت دعوات إحياء علوم الدين، وأدت إلى سقوط العلم والمعرفة والتنوير، وإلى طرد العقول بعد بدء حملة تكفير موجهة إلى العلماء والفلاسفة، واتهامهم بالزندقة، ووصل الأمر إلى تحريم الكيمياء وتحويل الطب من علم التجربة والاكتشاف إلى الطب النبوي وأنه وحي مرسل، واعتماد تلك النصوص الظنية الثبوت كمرجعية مطلقة لعلاج الأمراض والأوبئة.
كانت النتيجة تلك الحالة التي كان عليها أجدادنا، والذين كانوا يعيشون حالة من العزلة الشديدة العداء للعلم والمعرفة والمجهول، وكانت أشبه بالصندوق المغلق من مختلف الاتجاهات، ووصلت إلى مرحلة تحريم السفر إلى الخارج، لذلك لازلت أعتقد أننا نفتقد إلى إدراك تلك المرحلة، والسبب حالة الإنكار التي نعيش فيها، فالأصالة عندنا لازالت تلك الحالة المظلمة في تاريخنا الوسيط، والتي ليس لها علاقة بالإسلام العظيم على الإطلاق، ولكنها تمثل حالة من الآثار المدمرة لما فعله الفقهاء الأوائل بحضارة المسلمين المشرقة.
في الصغر كان بعض الدعاة يوزع على تلاميذ المدارس كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» لأبي الحسن الندوي، وتم استخدامه في بدايات مرحلة الصحوة الدينية، وقد نجحوا في إخفاء الحقيقة المرة، والتي لا يختلف عليها اثنان أن الفقهاء بتحريمهم العلم والفلسفة والكيمياء وزندقة علماء أفذاذ أمثال جابر بن حيان والرازي وابن سيناء وابن رشد ونجاحهم في ذلك كانت أحد أهم أسباب سقوط حضارة المسلمين.
ولو رجعنا للمرحلة المتأخرة في صراع الأجداد مع العلم والاكتشافات العلمية وموقفهم منها لاتضحت صورة الانغلاق، فقد رفضوا مختلف الاختراعات الحديثة بدءا من المايكروفون إلى التويتر، وكانوا دوما بعد رفضهم يعودون وينضمون إلى الركب ثم يستخدمونه لمحاربة العلم والثقافة، وكان إنكارهم الأولي لتعليم البنات ومنع الرق يمثل أحد أهم أمثلة حالة العزلة، وليس الدين الحنيف.
أجدادنا كانوا ضحية لمرحلة انغلاق طال أمدها، وتحولت مع مرور الزمن إلى عقيدة متشددة ضد الجديد، وضد الآخر، وليس لها علاقة بالدين، وكانوا دوما ما يطلقون المواقف المتطرفة جداً لكل قادم جديد، ثم يرضخون للأمر الواقع، ويعود الأمر برمته للسياسي الذي نجح طوال العقود الماضية في تمرير التحديث، وفي إدخال النور إلى بعض أجزاء الصندوق.
في الوقت الحالي يظهر على بعضهم حالة من التصميم على إسقاط ما تم إنجازه خلال العقود الماضية، وكأنهم بذلك يعيدون المحاولة التي فعلها الفقهاء الأوائل في أوج حضارة المسلمين، من خلال دعوة إحياء الدين، وذلك لضرب العلم والتنوير والانتقال إلى المجد وإثراء الحياة بالإنجازات العلمية والاقتصادية، ولا يخفى على أيا كان حالة الترويج للعودة إلى الصندوق مرة أخرى ثم الانغلاق داخل الكهوف لقرون أخرى..
لهذا السبب لازلت أؤمن أن الحل ليس عند العوام من أجل الخروج من الصندوق بسلام، ولكن عند النخب الدينية المستنيرة والسياسية والاقتصادية، التي تتحمل مسؤولية إكمال المسيرة وتصحيح مسارها، وذلك من خلال إصلاح الإدارة والاقتصاد وتوطين ثقافة الحقوق، وإيجاد الحلول للبطالة والتطرف عبر إشاعة العلم والتنوير بين شرائح المجتمع، ثم التخلي عن فكرة ربط الانغلاق بالأصالة، والتي تعني لي ذلك المجد الذي سطره الأجداد أمثال جابر بن حيان والخوارزمي وأبو القاسم الزهراوي، وليست سير التطرف ودعوات الانغلاق تحت شعار إحياء علوم الدين..، الله المستعان.