عبد الرحمن بن محمد السدحان
تشرّفتُ مؤخراً بتلبية دعــوة كريمــة مــن صاحب السمو الملكي الأميــر فيصل بن خالد بن عبدالعزيز، أمير منطقــة عسير، لحضور المهرجان السنوي لجائزة المفتاحة، وتسلّم درع جائزتها تكريماً من سموه رعاه الله وأسرة الجائزة مع نخبة مباركة من رموز الوطن، يتقدمهم المغفور له بإذن الله عميد الدبلوماسية الدولية، صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل.
***
تلقيت الدعوة الكريمة بفرح تشفعُ له غايتان:
الأولى، لتشريفي بفضل التكريم بهذه الجائزة الغالية تقديراً لما أكرمني به نبلُ ظن القائمين عليها، برئاسة سمو الأمير الجليل.
والثانية، أنني لم اعتبر شرفَ استحقاق الجائزة لي وحدي، بل شاركتني فيه سيدةُ الحنان والدتي الغالية، وذلك لأكثر من سبب، أهمها أنني تعلمت منها في طفولتي المبكرة سلوكيات وأخلاقيات ومُثلاً لا تُنسَى في الاجتهاد الشاق لاكتشاف الذات وتنميتها والاتكال عليها بعد الله، عبر العمل فـي بيئة تتقاسمها وقتئذٍ مهنتا الزراعة ورعي الغنم، ولَكَم تمنيتُ لو كانت أمُّ عبدالرحمن شاطرتني حضوراً فرحَ المفتاحة ذلك المساء لتشهدُ (الميلادَ الجديد) لضناها الذي ربّتْه صغيراً فأحسنَتْ تربيتَه!
***
من جهة أخرى، اكتسبت المناسبةُ الكريمةُ تألقُّاً خاصاً في خاطري، لأن الحفلَ أُقيم على بعد عشرات الأمتار من الثَّرى الذي يضم رفات سيدتي الوالدة، وتناثرت أمام عيني ذلك المساء أطياف من الرؤى المبلّلة بالدمع لا أحصي لها عدداً تذكّرني بها وبمآثرها عليّ، وسولت لي نفسي أكثر من مرة أن أعلن للملأ الحاضر أن الجائزة التي فزتُ بها، بما ترمز إليه من معان كريمة وأهداف سامية.. هي لأم عبدالرحمن السدحان!
***
ختاماً، استأذن القارئ الكريم أن أودع ساحة الحديث بمقطع من كلمة كنت قد أعددتها للإلقاء ذلك المساء بعد تسلّمي الجائزة، لكنني فكرت وقررت في آخر لحظة أن أصرف النظر عنها لضيق الوقت المتاح ضمن برنامج الجائزة، واقتطف هنا جزءاً من تلك الكلمة التي استمطرتْ مناسبتُها سحائبَ من ذكرى الطفولة في أبها قبل ستة عقود، خاصة حين اضطررتُ في سنّ مبكرة أن (أهاجر) منها مرتين بعيداً عن أمي للالتحاق بسيدي الوالد رحمه الله كي يهنأ بالها ولا تحزن، وفي الوقت نفسه، كنت أبحث لا شعورياً عن خارطة طريق لحياتي ولـمّا يتجاوز سني وقتئذ الثامنة تقريباً.
***
كانت (الهجرة) الأُولى من أبها إلى جَازان على ظهر بَعيرٍ ضمن قافلةٍ تجاريةٍ، وذهبت في اليوم الموعود إلى نقطة انطلاق القافلة بدْءاً من عقبة ضِلع الشهيرة فـي أبها، رافقني سيدتي الوالدة للوداع وهي لا تكاد تبصر الطريق من أثر الدمع، وحين بلغنا مدخل العقبة ودّعتُها، ثم اطلقتُ ساقيَّ النحيلتين للريح عدْواً عبر ذلك الطريق الوعر المنحدر إلى أسفل الجبل، وكانت سيدتي الوالدة تراقب خُطاي حتى تواريتُ أسفل العقبة وقلبي مترعٌ بالحزن لفراقها!
***
حرص قائد القافلة على سلامتي وهو يحملني بين يديه على ظهر الجملِ المخصَّصِ لنقْلي، وخشيةً من السقوط من عَلٍ أثناء الليل، أضطر أن يشُدّني بالحبال على ظهر الجمل، بدْءاً من رقبتي الى أخمص قَدميّ، ثم أبقى على هذا الحال حتى مطلع الفجرُ، واستمر هذا الإجراء خلال الخمْسِ ليالٍ التالية!
***
أما (الهجرة) الثانية فكانت إلى الطائف لغاية مماثلة تتعلق بسيدي الوالد وكانت وسيلة النقل سيارةَ بريدٍ عتيقةً لم أتمكنْ من السفر فيها لصغر سني إلاّ بأمْرٍ من حاكم عسير في ذلك الوقت، معالي الأمير تركي بن أحمد السديري رحمه الله، بعد أن قدّمت له التماساً مكتوباً صاغه لي صديق لوالدي في أبها، وكانت هذه الرحلة نقطة انطلاقي إلى عالم آخر بين حلَّ وترحالٍ بدْءاً من الطائف فجدة فالرياض فلوس انجلوس ثم الرياض، ومنها بدأت مشواراً طويلاً من الطموح والجهد الشاق بحثاً عن مستقبل أفضل!
والحمد لله من قبل ومن بعد!