عبد الرحمن بن محمد السدحان
يعبر المرء منا بوابة الحياة في مسار نموّ ذي شقين:
شق مادي تمثله مظاهرُ الحسّ، جسداً ومالاً.. وزاداً ولباساً، ووسيلةَ انتقال، ونحو ذلك.
وشق عقلي ووجداني ومنظومة سلوكٍ للتعامل.. مع من حوله.
* * *
هذا يعني أن المرء يتغيّر متأثراً بمنظومة القِيَم والمواقف والطباع والعادات التي تشكّل (سيناريو) سلوكِه اليومي، أخْذاً وعطاءً!
والسلوك في هذا الحال، ليس سوى (أداة) تعبير عن هذه الأنماط من التغير، بأسلوب أو بآخر، في أكثر من زمان ومكان.
* * *
وأعتقد أن النموَّ الماديَّ للإنسان أسرعُ خطىً وأقوى ظهوراً في حياة المرء من النموّ المعنوي، مما يرتب وجود (فجوة) بين مساريْ النمو، لا يملك المرءُ تجسيرَها إلاّ بتوفّر قدرٍ من النضج العقلاني، والسموّ الثقافي في تركيبة الذهن والإحساس، عَبْر زمن طويل.
* * *
ولذا، فإن نموّ الإنسان المادي والثقافي يسير في اتجاهيْن متوازيين، لكنهما غير متلازمين في الخُطَى بسبب تلك الفجوة التي قد تضيق وقد تتّسعُ، وقد تلازم حالةً تدنُو من التجمّد.. تبعاً لنهج النموّ وبيئته وضوابطه لدى هذا المرء أو ذاك.
* * *
نازعتني هذه الخاطرة، وأنا أتذكّر في شيءٍ من مرارة وشيءٍ من غيظ، ظواهرَ منتشرةً في أجزاءَ من هذا العالم، بما في ذلك بيئتنا العربية، تجسّد حقيقة الفجوة بين مادّية الإنسان الحديث وثقافته، وأعني بالثقافة مستوىً من سموّ الفهم وعلوّ الإحساس والقدرة على الامتصاص من روافد المعرفة والتجارب الإنسانية، يخترق بها هذا الإنسان قشرةً الحسّ المادي إلى فردوسٍ من الرُّؤى الفاضلة التي تميّزه عن بهيمة الأنعام!
* * *
هاكم بعض الظواهر التي أزعم أنها تترجم نمطاً من الأُميّة غير المألوفة، وهو أميّة التخلف، لأن أمية الحرف المألوفة شكلٌ من أشكال التحوّل الإنساني، لها معادلةٌ تقبل الحلّ، لكن (أمية التخلف) ظاهرةٌ من ظواهر المعاناة الإنسانية، التي قد لا يستجيب صاحبُها لحلّ!
* * *
فمثلاً.. يقتني أحدُهم آخرَ صيحة في عالم السيارات، ليدللَّ بها على (حضارته) ويباهي بها الرفاقَ والخلاّنَ، لكنه قد لا يعبأ بماءٍ آسنٍ يرتع أمام باب داره، وكأنّ الأمرَ لا يعنيه!
وقد يقود سيارتَه الفارهةَ تلك بفوقية مجنونة لا تحترم إنساناً ولا نباتاً ولا جماداً!
* * *
والأمَرُّ من ذلك كله أنه قد يخشى أذى الماء الآسن على حذائه اللاّمع، أو عجلات سيارته، لكنه لا يعبأ أن يخوض فيه أطفاله أو أطفال جيرانه ليجْنُوا منه أضراراً!
* * *
وهناك الذي يزيّنُ حائطَ مكتبه أو مجلسه بشهادات وبراءات تَشْدَهُ الأبصارَ، وعندما تتعامل معه.. أو تتحدث إليه، تُفجَعُ بفجوةٍ (تلوِّث) إحساسك بالألم وبالحسرة.. وتهمسُ لنفسك بأن ليس كلُّ من زيّن حيطان مجلسه أو مكتبه مثقفاً يشع نبلاً وبسطةً في العقل والحلم والإحساس!
* * *
ذلك كان تمييزاً يسيراً بين أُمية التخلف وأُمية الحرف، الأولى جرثومة تفترش العقل وتتوسّد الوهم، والثانية تستطيعُ (آلية) التربية السوية والتعليم القويم نقْلهَا إلى ما هو أفضل وأقوم سبيلاً!