إبراهيم عبدالله العمار
صمت تام. يقف رجلان أمام بعضهما في مكانٍ خالٍ. تلتقي العينان، تتأهب اليدان، وبسرعة ينزع كل منهما مسدسه ويطلق النار على الآخر، ويتقاذفان الرصاص حتى ينتصر أحدهما.
مبارزة المسدس هذه امتداد لمبارزات السيف والتي كانت جزءًا من حياة البشر فترة طويلة، والتي لم تقصر فقط على بدايات المعارك بل حتى كانت وسيلة رسمية لحل النزاعات، فيقضي قانون بعض قبائل أوروبا أنه إذا تنازع اثنان ولم يكن لأيهما شهود أو أدلة فيتبارزان بالسيف والفائز هو المُحِقّ. ولما اختفت السيوف وأتت المسدسات بدأ الناس يحلون نزاعاتهم بهذه الطريقة، والتي تشكل مشهداً شهيراً في أفلام رعاة البقر (كاوبوي)، لكن يجب أن نلوم هذه المبارزات لأن إحداها حرمتنا من شيءٍ هام، تحكيه لكم قصة الفرنسي إيفاريست غالوا.
من هو؟ ما قصته؟ انظر لهذا المشهد من حياة غالوا في إحدى ليالي شهر مايو 1832م لتعرف قليلاً: وَلَجَ منزله بعجلة، دخل غرفة وأخذ يكتب. إنه يكتب رسالة طويلة لأعز أصدقائه، يكتب فيها كل ما يعرفه عن الرياضيات. لكن لماذا؟ لأن غالوا عالِم. إنه شاب فائق الذكاء، عمره عشرون سنة، ورغم ذلك نال شهرة كبيرة فيما بعد بسبب اكتشافاته في الرياضيات؛ منها فرع يسمى نظرية الزُّمَر لعبت دوراً هاماً في الميكانيكا الكمية، وهو نوع بالغ التعقيد من الفيزياء.
كَتَبَ كتب وكتب. أودع غالوا كل شئ يعرفه في تلك الرسالة...أو قُل: الوصية. كانت تلك وصيته، فقد أخذ يكتبها بأسرع وقت، متحرقاً أن يسكب فيها كل ما في نفسه من مشاعر ومن علوم، لأن الوقت يمضي وفي نفسه الكثير، والذي دفعه لكتابتها أن عليه في الصباح أن يخرج لمبارزة بالمسدس مع أحد خصومه.
عصبيته البالغة أوقعته في مشكلة أخرى. لا نعرف سبب الخلاف بينه وبين الرجل لكن بسبب سرعة غضب غالوا فلم تكن كثرة خلافاته غريبة، حتى إنه في غمرة انفعاله ذات مرة سُجِن ستة أشهر بسبب تهديده لملك فرنسا!
تسللت خيوط الشمس لغرفة غالوا. نظر للخارج، لقد حان الوقت. سلّم الرسالة لصديقه واتجه لموضع المبارزة، التقى الرجلان، وتقاذفا الرصاص. أصابت غالوا رصاصة في أمعائه، شعر أنها القاضية، فُنقِل للمستشفى وعانى الألم يومين وتوفي، وكانت آخر كلماته موجهه لأخيه الذي يبكي عليه وهذا البكاء زاد غالوا غماً لأنه شعر أنه لا زال صغيراً على الوفاة، فقال غالوا: «لا تبكِ يا ألفرد، أحتاج كل شجاعتي لأموت وأنا ابن عشرين سنة!»
لا زال العلماء يفكرون في ما كان يمكن أن ينجزه غالوا في العِلم لو أنه أمسك نفسه عند الغضب ولم يتورط في تلك المنازعة التافهة، فرغم صغره إلا أن تأثيره العلمي كبير، فماذا كان سيعطي العلم لو عاش مثلاً إلى ستين سنة؟ لا أحد يدري، وبقيت تلك الوصية الطويلة مذكّراً لنا بغالوا.. العبقري العصبي.