إبراهيم عبدالله العمار
دخل أعرابي على المتوكل ليمدحه. لما وقف أمام الخليفة بدأ ينشد:
أنت كالكلب في حفاظك للود.. وكالتيس في قراع الخطوب
هذا الرجل، علي بن الجهم، أتى من بيئةٍ خشنة، من الصحراء، ومَدَحَ الخليفة بما يعرف من بيئته، لكن ليس المديح هكذا، فلما قام حاضرون وهمّوا به نهاهم المتوكل وقال: اتركوه. يعرف أن هذا مَبْلَغ علم الأعرابي، وأمَر أن يُسكنوه بستاناً قريباً من منطقة «الرُّصَافة» في العاصمة الراقية، فعاش ابن الجهم هناك بين الجمال والأنهار، يَرقُب الرائحة والغادية من مليحات بغداد في السوق المجاور، وبعد بضعة أشهر قَدِم مرة أخرى على الخليفة، فلما وقف أمامه وضع الناس أيديهم على قلوبهم خشية أن يأتي بطامة كالأولى، فبدأ يُنشد:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ.. جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن.. سَلَوتُ، وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
وأكمل ابن الجهم يلقي الأبيات الخلابة التي بقيت إلى اليوم من أرقِّ وأبدع أشعار ذلك الزمن، واتسعت الأعين مدهوشة! أهذا هو نفسه ذاك الأعرابي الجلف الذي شتم الخليفة (بلا قصد)؟
لكن الأمر مفهوم. لقد تغيرت بيئة ابن الجهم فتغيرت نفسيته وعقليته. خرج من الصحراء القاسية الجافة إلى بغداد الرقيقة الجميلة، وأزال هذا الجفاف والغلظة من قريحته ووضع مكانها شذى الأزهار ونفح الأنهار. إن تأثير البيئة بالغ على النفسية، ولهذا تكون الإجازة أنفع إذا صاحَبها تغيير للبيئة، ولا يجب أن يذهب الشخص لمكان أجمل مما هو فيه، فهناك الكثير ممن يأتون من مناطق حسناء مثل شرق آسيا وأوروبا ويذهبون للجبال والصحارى ويستمتعون!
لتعرف أثر تغيير البيئة على النفسية (بل حتى على الطباع!)، انظر لِما حدث في تجربة ستانفورد الشهيرة والمقلقة. في عام 1970م طبق أستاذ في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا تجربة، بعد سنين طويلة من وحشية تعامل الحراس مع السجناء في السجون الأمريكية، أراد فيها معرفة أثر الظروف على النفسية البشرية: هل الحراس أشرار أصلاً؟ أم يكتسبون الشر من عملهم؟ طلب متطوعين، وصنعوا مثل السجن، وجعل بعضهم يلعب دور حارس السجن والبقية دور سجناء، مكثوا في زنزاناتهم (الزنزانة غرفة) طيلة التجربة. الحراس تصرفوا كالحراس: يستقبلون السجين، يعرّونه، يرشونه بمعقم، يأخذون أغراضه، يعطونه لباس السجن، يقودونه لغرفته، إلى آخر ذلك. مطابقة كاملة للسجن الحقيقي.
بعد مجرد ساعات مِن بدْئها، بدأ بعض الحراس يستفزون السجناء بأوامر تافهة أو مملة وإهانات، وعشوائياً أمروهم بتمارين رياضية شاقة متلذذين بإهانتهم وتجريدهم من إنسانيتهم. ساءت العلاقة بين الحراس والسجناء، بدأ السجناء يردّون بإهانات ويتحدون الحراس، تمردوا، أغلقوا غرفهم وسدوها بالأسرّة، اجتمع الحراس واقتحموا الزنازين، ووضعوا رؤوس التمرد في الحبس الفردي. غابت التجربة عن أذهانهم، فقد كان الكل يعيش جو السجن فعلاً. المدة الأصلية التي نواها الأستاذ أسبوعان، لكن بسبب تدهور التصرفات والنفسيات أوقف التجربة بعد 6 أيام فقط! أحد السجناء أُطلق سراحه قبل ذلك بسبب نوبات جنونية من الصراخ والبكاء.
ماذا نستفيد من هذه التجربة؟ الكثير، لكن هنا يهمنا موضوع المقالة، وهو تأثير البيئة على النفسية. هؤلاء الحراس مجرد ناس عاديين تطوعوا ليلعبوا دوراً بمقابل مالي، وبمجرد أن استقروا في أدوارهم تسللت عقلية الطغيان والتجبّر إلى نفسياتهم. لم يكونوا أشراراً قبل ذلك، كانوا مثلك ومثلي، عاديين.
أرأيت تأثير البيئة على النفسية؟ على التصرفات؟ تصرفاتك لا تعتمد فقط على عقليتك، بل بيئتك يمكن أن تؤثر بقوة، والصاحب جزء من البيئة سواءً الطيب أم السيئ، ولا تنسَ الحديث الذي ذكر قصة قاتل المئة وأراد التوبة فنصحه العالم أن يترك بلده ويهاجر لمكانٍ أطيب.