د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يختلف اثنان على الأهمية الكبرى للمجلات العلمية المحكَّمة التي تصدرها بعض المؤسسات العلمية والحكومية في وطننا الحبيب، حيث تُعدُّ منابر علمية رصينة، تتنوع فيها الموضوعات والبحوث، ويغزر فيها الطرح العلمي المؤصَّل، وتتلاقح فيها الأفكار البناءة، وتتجاذب التجارب البحثية الملهمة، رغم صغر حجمها، وبطء صدورها..
ومع هذا فإني أعدُّها أكثر حيويةً وتنوعاً من الكتاب وبقية أدوات النشر الأخرى، حيث إنَّ انتشارها وتنوع مواضيعها دليلٌ على رقيها وقيمتها العلمية، كما تمثِّل هذه المجلات العلمية المتخصصة الخاضعة للتحكيم العلمي مصادر معلوماتية مهمة للباحثين والدارسين؛ نظراً لما تمتاز به من حداثةٍ في المعلومات، وموضوعيةٍ في الطرح، وتوظيفٍ دقيق للمنهج العلمي الرصين في معالجة القضايا المطروحة.
والقريب من واقع المجلات العلمية في المملكة لا يمكنه أن ينكر ما بلغته من تميز في الشكل والمضمون، حيث يحرص القائمون عليها والباحثون الذين يصوغون مادتها غالباً على سلامة ترتيب البحوث، وجودة مادتها العلمية، وحسن تبويبها، وكمال توثيقها، وصحة إسنادها، ووضوح غايتها، وبروز شخصية الباحث فيها، ووجود عناصر الإبداع في موضوعاتها، سعياً إلى تحقيق الفائدة من نشرها، كما يهتمون بحسن الأسلوب، وسلامة اللغة والموضوعية في المناقشات والردود والترجيح، وتوافر صفات الأصالة فيها، مع استقامة المنهج، وجمال الإخراج.
ولأنَّ النقص طبيعةٌ بشرية، والتقصير فطرةٌ إنسانية، أحببتُ أن أنبه في هذه المقالة على بعض السلبيات التي تعاني منها هذه المجلات، والمشكلات التي تواجه القائمين عليها والباحثين فيها، آملاً أن يُنظر إليها بعين الاهتمام والحرص، حتى تكتمل الفائدة، ويستمر حسن الظن بهذه المنافذ العلمية المتميزة، ويحصل التطور والتطوير، وترتقي بحوثنا الفكرية والثقافية لتكون على المستوى المأمول، وتزدهر سمعة هذه المطبوعات لتتجاوز حدود الوطن، وتأخذ نصيبها من المكانة الدولية والعالمية.
أولى هذه المشكلات في نظري تتصل بالدعاية والترويج وإثبات الوجود، فكثيرٌ من المجلات العلمية المتخصصة غير معروفةٍ إلا عند نخبةٍ يسيرةٍ من المهتمين بالبحث العلمي، أغلبهم من الأكاديميين الذين يحتاجون مثل هذه الأوعية العلمية لنشر بحوثهم سعياً إلى الحصول على الترقية، أما غيرهم فلا أظنهم يدرون ما هي المجلات العلمية، فضلاً عن علمهم بوجودها، ولا أرى سبباً يدعو الجهات التي تصدر هذه المجلات إلى غياب الدعاية والترويج لمطبوعاتها العلمية المحكمة إلا التكاسل والإهمال، وعدم الوعي بأهميتها وأثرها الهام في تقدُّم الوطن وازدهاره الفكري والحضاري، وإسهامها الكبير في احتلال جامعاتنا الوطنية مركزاً متقدماً في التصنيفات الدولية.
ولذا فإنه من المهم أن تجتهد المؤسسات التي تصدر هذا النوع من المجلات في الدعاية لها والحرص على انتشارها، وأن يصل العلم بها إلى عامة المجتمع، وفي رأيي أنَّ الوسائل التي يمكن أن تحقق هذا الانتشار كثيرةٌ ومتعددة، منها الإعلان عنها في المناسبات التي تقيمها المؤسسة، كالندوات والمؤتمرات والملتقيات العلمية التي تُعدُّ فرصةً مُثلى للترويج لمطبوعاتها العلمية، كأن تضع أغلفتها على اللوحات الدعائية، أو على (البروشورات) التي توزَّع على الضيوف والحاضرين، أو في الإعلانات الصحفية التي تدعو إلى حضور المناسبة، أو تعلن عنها في هذه المنافذ بأي صيغةٍ ممكنة، المهم أن تستثمر مثل هذه المناسبات لإبلاغ المجتمع بأنها تُصدر هذه الدوريات المحكمة، بل لا أرى مانعاً من توزيعها (مجاناً) في هذه المناسبات بدلاً من تكدُّسها في المخازن دون فائدة.
ومن الوسائل التي تساعد على وعي المجتمع بوجود هذه المجلات لدى المؤسسة التي تصدرها كتابة المقالات عنها، وتعريف الناس بتخصصاتها وشروط النشر فيها، كما يمكن التعريف بها من خلال الظهور الصحفي لرئيس التحرير أو من ينيبه للحديث عنها، وعن كافة المطبوعات التي تصدرها مؤسسته التي ينتمي إليها، سواء أكان لقاء صحفياً ورقياً أو إلكترونياً أو على التلفاز أو في الإذاعة.
أما المنفذ الذي لا يختلف فيه اثنان في كونه أكثر فاعلية في الترويج لهذه المطبوعات والتنبيه على وجودها فهو استثمار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بشكل فعَّال، وحين أقول بشكل فعَّال فإني لا أقصد الاكتفاء بوضع حسابٍ للمجلة في إحدى الوسائل، وإنما متابعته بصورةٍ مستمرة، وتحديثه، ونشره، وإضافة كلِّ جديدٍ من أخبار المجلة فيه، ومراسلة الباحثين والمفكرين، وحثهم على التواصل معها والنشر فيها، وغير ذلك من الأمور التي تضمن وصول أخبار هذه المجلات إلى المجتمع، ومن المؤسف حقاً أن تغفل المؤسسات عن استثمار هذه الوسائل، أو تتكاسل وتهمل طرقاً مفيدة للانتشار السريع و تعريف المجتمع بها وبجهودها في خدمة العلم والفكر والثقافة.
وهذا يقودني إلى مشكلةٍ أخرى أرى أنَّ معظم المجلات العلمية تعاني منها، وهي عدم وجود مقراتٍ لها خاصةٍ مستقلةٍ في المؤسسات التي تصدر عنها، بل ليس لها مكانٌ محدَّدٌ يمكن للمستفيد أن يحصل على نسخة منها، وقد لاحظتُ هذه المشكلة حين تعدَّدت الاتصالات التي تطلب مني طريقة الحصول على نسخةٍ من عددٍ معينٍ لمجلةٍ متخصصة، وحين أحيلهم على المؤسسة التي تصدرها يؤكدون أنَّ كلَّ موظفٍ يحيل على الآخر، بل إنَّ بعضهم يمنع من إهداء نسخٍ من المجلة أو حتى بيعها إلى أي أحد، ولا يسمح إلا لمن كان له بحثٌ فيها، وهذه إشكاليةٌ كبرى، فما فائدة هذه المجلات إن لم يكن لها مكان معروف يمكن الحصول على أعدادها منه، وما الغاية من طباعتها وتحكيم بحوثها إذا كان الحصول عليها في غاية الصعوبة والتعقيد.
ولذا أقترح أن توضِّح المجلات العلمية مقراتها بشكل واضح، وأن يكون الطريق إليها كالطريق إلى مكتب مدير المؤسسة من حيث السهولة والجلاء، وإذا قيل هذا في المقر الحقيقي، فالاهتمام بالموقع الإلكتروني من باب أولى، وهنا أرى من الضرورة القصوى أن يكون لكلِّ مجلةٍ علميةٍ موقعٌ معلنٌ معروفٌ على الشبكة العنكبوتية، حيث يوضع فيه كل ما يتصل بالمجلة من أسماء تعمل فيها، ووسائل تواصل، وآخر أخبارها، والأهم من كل هذا أن تضع المجلة جميع أعداها بصيغة إلكترونية مجانية حتى يمكن للجميع الحصول على أي نسخة منها في أي وقت، وبأسهل طريقة.
إنني حين أشدِّد على هذه القضايا المهمة، وأؤكد على تسهيل الحصول على أعداد هذه المجلات وتيسير الوصول إليها لكلِّ أحد، فإنَّ ذلك راجعٌ إلى إيماني بأهميتها الكبيرة، وإدراكي للجهود التي يبذلها القائمون عليها والباحثون فيها، وحرصهم الشديد على أن تكون منابر علمية موثوقة، وعنايتهم بأن تكون البحوث والمقالات التي تتضمنها المجلة في غاية الجودة والبراعة، حاملةً كلَّ جديدٍ في التخصص، محتويةً على كلِّ حديثٍ في الفكر والثقافة، بل إنَّ بعض هذه البحوث والمقالات قد تكون مفاتيح لاكتشافات ومخترعات تفيد الوطن والمجتمع، وتسهم في تقدمه وازدهاره ونمائه، ولهذا أراني أتحسَّر على انحسارها، وقلة انتشارها، طامعاً أن يبذل القائمون عليها كلَّ جهدٍ في سبيل الدعاية لها ونشرها عند أكبر قدرٍ من أفراد المجتمع.