د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
كنتُ أتحدثُ في الجزء الأول من هذا المقال عن أهمية المجلات العلمية المحكَّمة التي تصدرها بعض مؤسساتنا التعليمية والحكومية، وذكرتُ أنَّ أبرز مشكلةٍ تواجهها غياب مطبوعاتها عن المجتمع، وصعوبة وصول المستفيدين إليها، وعدم وجود مقرَّاتٍ واضحةٍ لها في مؤسساتها التي تصدرها، مما يجعل الإفادة منها محدودة، رغم ما تتضمنه كثيرٌ منها من مقالاتٍ وبحوثٍ علميةٍ قيمة، واقترحتُ في هذا السياق مجموعةً من الوسائل التي تضمن انتشار مثل هذه الدوريات، وتجعل انفتاحها على المجتمع ووصولها إلى أفراده في غاية اليسر والسهولة.
وامتداداً لهذا الموضوع، أشير في هذا الجزء إلى مجموعةٍ أخرى من المشكلات التي ظهرتْ لي من خلال تجربتي القصيرة في التعامل مع هذه المطبوعات العلمية، آملاً أن تجد آذاناً مصغية من قبل المسؤولين عنها والقائمين عليها، حتى يمكن أن تظهر بالصورة المرجوة، وأن تؤدي دورها العلمي المنوط بها في خدمة العلم والفكر والثقافة، خصوصاً أني أدرك تماماً الجهد الكبير الذي يبذله المسؤولون عنها في الخروج بها على أكمل مضمون وأجمل صورة.
ولعل من أبرز المشكلات التي تحضر في هذا السياق ما يتصل بالمحكّمين الذين يتعاونون مع المجلة في تحكيم بحوثها، والحكم عليها بالقبول المطلق أو المشروط بعمل التعديلات أو بالرفض، وهنا يبرز عددٌ من الإشكاليات التي قد تؤثر في مدى قوة المجلة أو في الوقت الذي تحتاجه للصدور.
فمن ذلك ضرورة أن تحرص المجلة على اختيار المحكم المتميز بالعلمية القوية، والمعروف بدقته المنهجية، ومثل هذا النوع من المحكمين يفترض ألا يخفى اسمه على كلِّ مجلةٍ جادَّة تحرص على أن تظهر بحوثها قويةً علمياً ومنضبطةً منهجياً، فمثل هؤلاء يسهمون بشكلٍ كبيرٍ في قوة المجلة، وجدِّية المقالات والبحوث التي تتضمنها، ولا شكَّ أنَّ هذا يعكس صورة إيجابية، ليس عن المطبوعة فحسب، بل حتى عن المؤسسة التي تصدرها.
والذي ألحظه هنا أنَّ بعض المجلات لا تكلِّف نفسها مشقَّة البحث عن هذا النوع من المحكمين، معتقدةً أنَّ كلَّ أكاديميٍّ حاصلٌ على درجةٍ عاليةٍ في تخصُّص البحث المقدَّم للنشر يصلح أن يكون محكِّماً له، وهي إشكاليةٌ كبرى تحدثتُ عنها في أكثر من مقالٍ سابق، وأكَّدتُ فيها أنَّ الأكاديميَّ المتميز ينبغي أن يكون متابعاً لتخصصه، وأن يحرص على القوة العلمية والدقة المنهجية، وليس كلهم بهذا الوصف، لذا ينبغي على المجلة أن تكون أكثر دقَّة في اختيار المحكمين، وألا تكون العملية مجرَّد خبط عشواء مَنْ تُصِبْ «يُحكِّم»؛ لأنَّ هؤلاء المحكمين الذين يفتقدون القوة والتميز يسهمون في ضعف البحوث المقدمة لهم، حيث يمكن أن يكون الجيد منها بتعديلاتهم ضعيفاً، ويمسي الرديء جيداً من خلال عدم إضافتهم لأيِّ شيءٍ يساعد على تقويمه وتقويته.
وهذه الإشكالية تقودني إلى أخرى، وهي تكرار أسماء المحكمين، وعدم الرغبة في تغييرهم، وهي نتيجةٌ أخرى من نتائج كسل أعضاء المجلة، أو عدم قدرتهم على البحث عن الأسماء الجديدة المتميزة؛ لهذا تجد لدى بعض المجلات قائمةً معروفةً بأسماء المحكمين لم تتغير منذ صدور عددها الأول، بل إنَّ كلَّ عضوٍ من أعضائها ربما لا يعرف إلا واحداً أو اثنين في مجال تخصصه، وهنا تتكرر الأسماء، وتتكرر الملحوظات، وتكون البحوث المتحدة في التخصص نسخاً لبعضها من الناحية المنهجية على الأقل؛ لأنَّ المحكم واحد، والتعديلات واحدة، وهو ما أراه عيباً كبيراً من العيوب التي يقع فيها كثير من مجلاتنا العلمية.
وما دام الحديث عن المحكمين فإنَّ من الإشكاليات الكبرى التي تواجهها المجلات معهم تأخر كثيرٍ منهم في عملية التحكيم، وعدم تسليمه للتقرير المكلَّف به إلا بعد انتهاء الوقت المحدد بأيام أو ربما أسابيع كثيرة، رغم أنَّ خطاب التكليف الذي وصله من المجلة محدد بوقتٍ معين، غير أنَّ بعض المحكمين يتساهلون في هذا الأمر، مما يؤدي إلى تعثر كثير من الأمور، فالباحث ينتظر نتيجة بحثه حتى يمكنه التقديم على ترقية، ووقت صدور المجلة متوقِّفٌ على وصول هذا التقرير.
وللتخفيف من هذه الإشكالية أقترح على كلِّ مجلةٍ أن تتشدَّد مع المحكمين في تسليم تقاريرهم في الوقت المحدد، بل أقترح أن تشعرهم بأنها ستضطرُّ آسفةً إلى الخصم من المكافأة عن كلِّ يوم تأخير، كما أقترح أيضاً أن يوضع اسم المحكم الذي يتكرر منه التأخر في قائمةٍ سوداء مهما كان تميزه، بحيث لا تحال إليه أيُّ بحوثٍ في المستقبل، فغيره متميزٌ وملتزمٌ بالوقت، وكلُّ هذا لا يتعارض مع ضرورة أن تحرص المجلة على متابعة المحكمين الذي تحيل إليهم بحوثها، وأن تبلغهم باقتراب انتهاء الفترة المحددة للتحكيم، وأن تعمل لهم كلَّ الإجراءات التي من شأنها أن تسهل لهم عملية التحكيم وتسليم التقارير في الوقت المحدد.
أما آخر الإشكاليات التي أختم بها هذا الموضوع المهم فهو ما يتصل بالتأخر الشديد لأعداد كثيرٍ من المجلات، حيث ألاحظ أنَّ صدور بعض المجلات يتأخر إلى العام والعامين، وإذا كان من أسباب ذلك تأخر بعض المحكمين في تسليم تقاريرهم أو عدم اكتمال البحوث اللازمة لصدور العدد، فإنَّ من الأسباب أيضاً ضعف المتابعة مع الجهة المسؤولة عن طباعة أعداد المجلة، والتساهل في التأخير الذي يحصل منها، وهنا ينبغي أن تحرص المجلة - من خلال المؤسسة التي تتبعها - على الجدية في المتابعة، والتأكيد عليها بضرورة الالتزام بالوقت المتفق عليه بين الجهتين، وعدم الاعتبار بأي أعذار من شأنها أن تؤخر صدور المجلة، كما ينبغي على المؤسسة التي تتبعها المجلة ألا تبخل عليها بأي إمكاناتٍ ماديةٍ أو معنويةٍ أو تمويلٍ مالي؛ لأنَّ هذا استثمارٌ علميٌّ رابحٌ لا محالة، وأثره ليس مقصوراً على المجلة ولا على المؤسسة، بل على العلم والمعرفة في الوطن عامة.
أما الاقتراح الأخير الذي أختم به هذه السطور فهو أن تتبنى وزارة التعليم - أو أيُّ جهةٍ أخرى مسؤولة - وضع جائزةٍ كلَّ عامٍ أو عامين لأفضل مجلةٍ علميةٍ محكمةٍ في مجال تخصصها، مما سيشعل التنافس بين هذه المجلات، حيث ستحرص كلُّ مجلةٍ على الفوز بهذه الجائزة، ولا شكَّ أنَّ هذا الفوز سيُحسب أيضاً للجهة التي تصدرها، ثم إنَّ هذا الفوز سيلفت أنظار الباحثين إلى هذه المطبوعة، ويصبح النشر فيها إنجازاً وشرفاً لكلِّ باحثٍ جاد، مما سينعكس إيجاباً على قوة المجلة وزيادة تميزها العلمي والشكلي والمنهجي، وربما أسهم هذا الفوز في حلِّ مشكلاتٍ ماديةٍ كانت تعاني منها.
* * *
إنَّ مجلاتنا العلمية ودورياتنا المحكَّمة التي تصدرها بعض مؤسساتنا التعليمية والحكومية تُعدُّ واجهةً من الواجهات العلمية الأصيلة التي تمثِّل هذا الوطن الحبيب المعطاء، ولم تأتِ هذه السطور إلا من إيمانٍ عميقٍ بأهميتها في الحركة العلمية والفكرية والثقافية، وأثرها الكبير في التقدُّم والازدهار في المجالات كافَّة، وليت المسؤولين عنها والقائمين عليها يحرصون على النظر فيها والعمل بها، فهذه المطبوعات هي واجهتهم العلمية، وهي مظهرٌ من مظاهر تميز المسؤولين عنها، وتميز الجهة الصادرة عنها، ثم هي في النهاية ملمحٌ من ملامح القوة العلمية والتميز البحثي في المملكة العربية السعودية.
** ** **
تنويه:
سقط سهواً من عنوان الحلقة الأولى جملة:
(بين الاحتفاء والاختفاء)