فيصل أكرم
اسمه هدرا جرجس، روائي وصحافي مصري من مواليد 1980 انتقل من أسوان إلى القاهرة مؤخراً، وأصدر أربعة أعمال (قصصية – روائية) أتصوّر أنها إرهاصاتٌ لعملٍ روائيٍّ كبيرٍ سيفاجئ المشهد الأدبي قريباً. هل معنى كلامي هذا أن أعماله الأدبية السابقة ليست كبيرة؟ قد يغضب مني كثيرون، ليس هو بينهم، لو قلتُ: نعم!
الصديق العزيز هدرا جرجس عرفته شخصاً قبل أن أقرأ له حرفاً، وجلسنا أكثر من مرة نتحدث عن كل شيء، وقد أحببته كصديق مثقف ومؤدب يجيد فن الحوار على اختلافاته الطبيعية وغير الطبيعية، فمنذ بداية تعارفنا اصطدمنا بفكرة (الحرية) ثم اكتشفنا أننا نتفق معاً على أنها ليست فكرة قابلة للتأييد أو الرفض بقدر ما هي طبيعة تحكمها المبادئ والأخلاقيات، وهذا ما يجعل تأييدها أو رفضها مرتبطاً تماماً بالموقف (الحدث) وليس بالحرّية كمسمّىً يطلقه كل من ظنّ الحرّية هي المضاد للاضطهاد!
أنجز هدرا جرجس أعمالاً قصصية صدرت عن دور نشر مصرية ونالت جوائز كبرى من مصر، بينها جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعته القصصية (بالضبط.. كان يشبه الصورة) وهي -كما جاء على غلافها- (متتالية قصصية) تشبه إلى حد بعيد العمل الدرامي (التلفزيوني) الذي يأتي على شكل حلقات لبطل واحد، وتدور في فلك واحد، وتحمل القضية ذاتها لتناقشها من جوانب مختلفة؛ ودائماً تترك نهاياتها مفتوحة كدليل على أن الهمّ لم ينته بعد، والدائرة لم تكتمل بانغلاق ولم يتلاش انحناؤها نحو مزيد من الكتابة حولها.
ولهدرا رواية اسمها (صيّاد الملائكة) هي عمله الصادر مؤخراً عن دار (إبداع) بالقاهرة، وطبعت ثلاث طبعات في أقل من عامين، وكُتب حولها عددٌ غير قليل من المقالات والدراسات العميقة، وكلها تقريباً تشير إلى عوالم هدرا جرجس (الدينية – المسيحية) في كتابته، لأن أبطال قصصه دائماً من أقباط مصر، حتى أنه اضطر في أكثر من حوار صحفيّ إلى التصريح – حدّ الصراخ – بأن من يضعه في هذه الدائرة حصراً فهو يظلمه، ويعود يؤكد بأنه كقبطيّ من أسرة متدينة يعلم ما لا يعلمه غيره عن هذه (الأقلية) في مصر، لذا فهو يحمل قضيتها ويكتبها، ولكن في إطار أدبيّ يتسع لمعالجة (الفتنة) وكشف عورات مسببيها ونواياهم غير المعلنة.
وكمثال واحد لكثير من هذه الكتابات، ما كتبته الدكتورة شيرين أبو النجا عن (بالضبط.. كان يشبه الصورة) تقول: (الكاتب اسمه هدرا جرجس، وأحياناً ما تبالغ بعض الصحف فتضيف لاسمه (زخاري) في محاولة ماكرة لمهر ما يكتبه بخاتم (قبطي) أتوقع إذاً أن نصنف في يوم ما عملاً أدبياً أنه (إسلامي)! إنها هشاشة التلقي التي تجعل اسم الكاتب يصنف العمل طبقاً لديانة ما).. ثم تعود الكاتبة بالكلام، وكأنها تتراجع بعد أن قرأت العمل: (ولكن يبدو أن عوالم شخصيات العمل قد فتحت شهية المتلقي أكثر ليتمادى وينزع عن العمل فنيته وأدبيته ويلقي به في خانات توصيف ديني)!
الكلام هنا – وهو مطبوع على الغلاف الخلفي لكتاب (بالضبط كان يشبه الصورة) - لا أجده يخدم عملاً أراه يلوح قادماً من فكر هذا المبدع المتمكن من أدوات الكتابة القصصية والروائية جيداً، وسوف أخالف كل الآراء التي تناولت أعماله لأقول رأيي باختصار ومسؤولية وقناعة: نعم هدرا جرجس في كل أعماله الصادرة حتى اللحظة يكتبُ أدباً (مسيحياً) ولا أرى أيّ عيب أو انتقاص من قدر العمل وصاحبه بذلك، كما لا أرى أيّ انتقاص أو عيب في الأعمال الروائية (الإسلامية) الكبرى، كأعمال المبدع الراحل عبد الحميد جودة السحار (ومنها: محمد رسول الله والذين معه – في عشرين جزءاً، وعيسى ابن مريم، وكشك الموسيقى)! مثلاً.. وأظنّ المجتمع المصري – بخاصة القبطي – بأمسّ الحاجة الآن إلى عملٍ أدبيّ كبير يعدل كفتيْ التوازن بين الأقلية الأقدم والأكثرية الأحدث وما إلى ذلك من مصطلحات هي واقعية مضموناً وإن اختلفنا حولها أو حتى رفضنا الخوض فيها شكلاً. وأسألُ: لماذا نكره؟ وإن أحببنا، فمن مثل هدرا جرجس قادرٌ على إنجاز عملٍ أدبيّ (قبطيّ) كبير، يُخلّد كما خُلّدتْ أعمالٌ أدبية تصنّف بامتياز على أنها (إسلامية) رائعة؟
لسنا على خلاف أبداً، ومن يحرّض على ضرورة النأي بالأدب عن الديانات أنا أتفق معه، غير أن الحديث هنا عن أديب يحمل قضية تتجلى في كل أعماله الصادرة حتى اللحظة، وإن كان يعد بأنه سيخرج إلى آفاق أخرى في عمله القادم، فالمنطق الأدبيّ -الذي أعتقده- يقول: لا. ليس بكيف الأديب أن يهتمّ بقضية ويتجاوز عن أخرى.. إنه التكوين.. التكوين الأدبيّ يفرض على كلّ أديب التزاماً بقضايا معينة يحمل همومها ويبدع في عوالمها طيلة حياته. كل محاولة للتغيير ممكنة في التقنية والأسلوب وحتى قواميس المفردات، والالتحاقات الحزبية الآنية.. مثلاً؛ ولكنها في القضايا التكوينية غير ممكنةٍ أبداً.
هذا هو رأيي الشخصي -أو الأدبي، على وجه الاعتبار- وأنا أثق جداً بأن صديقي الأديب هدرا جرجس سوف يتأمله كثيراً ولن يعلّق عليه، وربما سيتمنى لو أنني لم أكتبه(!). وفي المقابل أثق بضرورة كتابة مثل هذه المقالة، وقد بحثتُ متمنياً أن أجد أحداً سبقني إلى قول هذا الاقتراح – أو الرهان - لهدرا أو على هدرا، وحول أعمال هدرا أو عليها!.. فيكفيني عناء كتابته التي قد تكون صادمة (أو مفارقة) أن تأتي من هنا، لا من هناك(!). ولكن: لا فرق، فهذا أدبٌ وكلنا أدباء، وإن اختلفت اتجاهاتنا في الأجناس الأدبية، أو اختلفت جنسياتنا العربية، أو اختلفت دياناتنا السماوية. أقول بإصرار: أراهن على عمل روائيّ كبير سيكتبه هدرا جرجس جاعلاً من أعماله الأدبية السابقة مجرّد (إرهاصات) استحقت أن تنال ما نالته من اهتمامات، تمهيداً لذلك العمل المنتظر.
ختاماً أقول: هدرا جرجس، كما يتضح من تاريخ ميلاده، لا يزال دون الأربعين بأربع سنوات، وطالما أنني قلتُ (أراهن) فسأضع لرهاني مدىً زمنياً مقداره أربع سنوات، يأتي بعدها العمل الأدبيّ الكبير، ويكون مؤلفه قد (بلغ أشدّه) كما عندنا، وعند أممٍ من قبلنا.