فيصل أكرم
في غمرة انشغالي بكتابة قصيدة جديدة، سألتني عابرةٌ بتحقيق: أين الشعر الآن، والدنيا كلها قصص وروايات وحكايا..؟! فأجبتُ سريعاً، بكلّ البداهة وبعض القناعة - لا الرّضا: نحن في أصعب عصر يمر به الشعر الحقيقي، ليس العربي فقط بل في العالم كله، والسبب أن الشعر الحقيقي صعبٌ جداً، بينما نحن في عصر استسهال كل شيء من أشياء الكتابة والمشافهة والحراك.
ولأنّ الشعر صعبٌ صار استسهاله بكتابة أي خواطر منثورة مرسلة أو متقاطعة - أو حتى نكات وقفشات! - تلصق بها صفة الشعر، وبإصرار عجيب. لأن الكل يريد أن يمارس كل شيء، فقط لينال شرف الممارسة لا المحاولة (!). ومن هنا انتهى الحضور الشعريّ الحقيقيّ لأنه حينما يحضر يجد نفسه وسط ازدحام من اللا شعر فيفضّل الانسحاب. أما القصة، فهي ليست صعبة ولا سهلة. هي ممكنة لمن يحاولها ولا تستحيل على غير المبدعين كما يستحيل الشعرُ الحقيقيّ؛ لذا تكاثرت القصة وتخفى الشعرُ كما تتخفى الأحجارُ الكريمة في صحراء تعجّ بالغبار.
وفي وفرة غبطتي بقراءة شيء من الشعر الحقيقيّ النادر، سألني محقّقٌ في عبور: ماذا يقدّم الشعرُ من سلامٍ للناس، وكيف يكون الشاعرُ شاعرَ سلام، وماذا تقول..؟
أجبتُ ببعض الذهول، وكثير جداً من تأملاتٍ لفرسانٍ على ظهور الخيول: شرطُ الشعرِ أن يكون سلاماً. فالصخرة تحطم كل من تحتها حين تنحدرُ لأنّها لا تشعر بهم، أما القصيدة فلا تفعل.. أو تفعل العكس، تضمّد جراحاً وتجبر كسوراً وتطيّب خواطر وترفع معنويات؛ لأنّها شِعْرٌ، وتحفر عميقاً في الشعور. والشاعر كائنٌ حيّ، يشعر بحواسّه كلها، وكلّ المخلوقاتِ الحيّةِ تشعر ببعض الحواس.. حتى السباع لا تجرّح فرائسها إلا من جوعٍ لتأكل؛ وكم رأينا من مشاهد يظهر فيها السبعُ حنوناً على فريسته عندما يراها ترضع أطفالها فيتركها، وأحياناً يحميها من سباع أخرى لا شعور لها، تعيشُ تماماً كالصخر والحجر والغبار.. وتمرُّ بالأشياء وعليها، من فوقها أو تحتها أو حواليها، ومن دون تصريح سلام.! شاعرُ السلام، بهذا المعنى والمعاني كلها، هو كل من يكتب شعراً حقيقياً، بشعورٍ حقيقيّ، يخلو من كلّ تمثيل ونفاق وتملّق وشماتة لا يجيدها إلا من خلت حواسّه من كلّ مكونات الشعور والشعر والشعراء.. ويبقى الإبداع بحسب طاقة كل شاعر وموهبته، بشرط أن يكون شاعراً حقيقياً كما اتفقنا. صحيح؟ وبعدها أقول: أنا أقبل الشعر حتى لو كان ساذجاً وبريئاً من دهاء العبقرية وملكة الإبداع، شرط أن يكون صادقاً في (الشعور - الشاعرية). وهذا هو الوصف الذي أختلف حوله مع كثير ممن يفلسفون معنى (الشاعرية) بغير حقيقتها، وهم ليسوا بشعراء. لو كانوا شعراء لأدركوا عبث فلسفاتهم! والسلام.
* * *
هل بين الجوابين تناقض؟ ربما، وربما هو التكامل حتى يتخلّق شعرٌ من شعورٍ إلى شعور.!
وأختمُ بجوابٍ أخير، عن سؤالٍ ليس بأخير: كلامٌ هو الشعرُ؟
أقسمُ باللهِ: لا؛
فالشعرُ ضربٌ من المعجزاتْ
وبالشعر قاربتُ معنى الحياةْ.
بماذا انتهيت؟
انتهيتُ بجرحيَ،
ثم نزفتُ، تعبتُ، انثنيتُ، انحنيتْ
ثمّ ارتميتْ
ثمّ ارتضيتُ ارتمائيَ حتى
هو الشعرُ أوقفني.. فانتشيتْ!