سام الغُباري
إن لي أخًا لم تلده أمي، عشت معه في دار واحدة أكثر من عشرة أعوام، خدعه أخواله الحوثيون وأقنعوه بالانضمام إلى جند سيدهم عبدالملك الحوثي، انتزعوه من عمله بوصفه محاسبًا في صرافة جارنا، فقُتل على
الطريق إلى تعز، ويقال إن عدن سفحت دمه. وللاستفادة القصوى من وجوده الميت فخخ رفاقه الحوثيون جثته بعد أن فخخوا عقله، ومات على أشلاء جثته العارية شاب يمني حاول أن يتبرع لدفنه بعد أن تركه الحوثيون على خطوط التماس بلا كفن يضم شتات عظامه الواهنات، ويرمم جروحه الغائرات، فقد كان مـصابًا، ونـزع عنه سلاحه الشخصي ليسلم إلى غيره من المغرر بهم فيلقى الحتف ذاته! إلا إن كان حوثيًّا فتعود جثته، ويرد إلى أهله مجللاً مـعطرًا داخل تابوت أخضر عليه شعار صرخة الحوثيين البائس.
أخي الذي مات لم يكن يعرف السلاح، وكنت أمازحه بمسدسي الصغير فيهرب مني، وابتسامته تملأ وجهه الرشيق بإطلالة بريئة وعينين كلؤلؤ في محار الجفن. اسمه علي الشاكري، والده فقير، يعمل في بيع القات، وفجأة أدركه الجنون بالانضمام الهش لجماعة الحوثيين في ثورة الربيع العربي بالعام 2011. في ذلك الزمن المشؤوم غادرني علي وفارقني، خرج من محلنا التجاري، واشتغل في أماكن عدة. كان يثور في داخله، ولم يعد ذاك البريء الجميل الذي آخيته وأحببته. تشيع للحسين الذي لا يعرفه، وبـكى على زيد الذي جاء من بلاد فارس، وآمن بإمامة من يدعون أنهم «آل بيت النبوة»!
كان مسرفًا في شتم عبدالملك بن مروان وأنجاله، وقد انقضت خلافتهم وخلافة من جاء بعدهم بمائة دولة ودولة. ضحكت، وقارنت ذاك بهذا؛ فاستشاط غضبًا، وتحول إلى كائن آخر! سألته ما بالك توحشت يا أخي؟! غادرته ومضيت، وجاءني نبأه بعد حين: قُـتل علي! فكان مصابي بالغ الأثر، إنه لا يستحق تلك النهاية؛ فقد كان ممتلئًا بالحب والسلام والفكاهة الذمارية النقية، كان شلالاً من الطيب والدعة، ولا أدري لِمَ ذهب، وعلى ماذا قاتل؟! هل أغضب على أبيه أم أنعاه وأواسيه؟ أنا حزين جدًّا ومقهور على الذي ما كانت تشرق الشمس في ذمار إلا وأتذكره!
أين أنت يا علي؟.. هل مـت فعلاً؟ أهكذا رحلت قبل صياح الديك، قبل تقبيل وجه أمك، قبل أن نغني معًا كيومنا الأخير «يلا نعيش في عيون الليل ونقول للشمس تعالي، بعد سنة مش قبل سنة، دي ليلة حب حلوة بألف ليلة وليلة». هل تمزقت جثتك إلى أشلاء وما عـدت تغني! ماذا حدث لحنجرتك، ابتسامتك، فخخها الحوثيون الذين منحوك وَهْم البطولة، فقضوا عليك وأنت الذي لا تعرف سوى الحماس المندفع كأي فتى يحاول أن يجد له شأنًا في هذه الحياة، فغادرتها قبل أن تصل إلى نعيمها، فخسرتك أمك، وأبوك وأصدقاؤك وكل أحبائك، وخسرتك أنا.
هل تذكر كل رفاق العمل في محلنا، وعشاء رمضان الأثير، وقات المساء الذي أستقطعه لأجلك خلسة ولكونك قريبًا إلى نفسي؟ هل تذكر خصامنا وتصالحنا، وأسفارنا الكثيرة، يا أجمل الرفاق وأنبل الفتيان.
مات علي الشاكري.. الطيب الجسور، الصادق الحقيقي، وكل من في هذه الجماعة الملعونة من الحوثيين لا يستحقون ظفر أصبعه الصغير، حتى عبدالملك الحوثي وأخوه حسين وكل من في الحوثيين من ضالين ومضلين لا يساوون تراب نعليه؛ فقد كان أشد من عرفت براءة وصدقًا وسلامًا، وهذه الحرب لا شأن لها ولا سبيل سوى أنها طريق مفروش بالورد إلى جهنم.
لم يجد علي الشاكري أي أحد من الدواعش الذين سيق ظنًّا بمحاربتهم؛ فقد كان معهم دون أن يدري، قتله مصدر الإرهاب الهاشمي الحوثي، خان روحه في السماء، وقتله مرة أخرى، تركوه مصابًا بلا ماء، ولا سلاح أو ذخيرة أو معونة، مات ظمأ وجوعًا، نزف من كل شيء.. دمه، روحه، حبه، عشقه، أحلامه، أمنياته، وبراءته كانت آخر من حلق فوق جثته الطاهرة.
يا كل أب ويا كل أم..
انسوا أوهام الغزو، وكبرباء العـزة، وحكايات المحتلين التي تقال على أطفال سـذج فلا يصدقونها، أولادكم أمانة في أعناقكم، فتيانكم يستحقون أن تناضلوا لأجلهم، وأن تمنحوهم السلام والقلم والحب والكرامة، ليس لكم فخر في موتهم بين أيدي رفاقهم في محافظات أخرى، كل من يقاتل اليوم كان له أن لا يصدق مأفون مران البغيض، فالقتال مـحرم بأمر الله، والبغي مرذول ومـدان، لا كرامة لكم وأنتم تدفنون أولادكم أحياء، تئدونهم مع الحوثيين في انتحار جماعي فلا يعود منهم أحد، وقد كانوا في قراهم يزرعون، كانوا يضحكون ويعشقون.. وكان لهم أن يكونوا صالحين إلا أنكم قتلتموهم كما أنجبتموهم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى المرء إثمًا أن يضيع من يعول»، وليتكم تعرفون ما هو الإثم وعظيم أثره وعقابه عند الله.
يا عبدالملك الحوثي: أين علي الشاكري؟ وحسبنا الله ونـعم الوكيل.