د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
من أهمِّ الأسباب التي تدعوني لكتابة هذه السطور ما لاحظته -ويلاحظه كثيرون غيري- من (ضعفٍ) شديدٍ يعتري دراساتنا اللغوية: الأدبية والبلاغية والنقدية (التطبيقية)، خاصَّةً تلك الأطروحات والرسائل التي يُقدِّمها طلاب الدراسات العليا طمعاً في الحصول على درجةٍ علمية، حيث لا يمكن أن يخفى على مَن له أدنى اطلاعٍ على مثل هذه الدراسات -أو هكذا يسميها أصحابها والمشرفون عليها- ما فيها من (ضعفٍ) واضحٍ و(فقرٍ) شديد، مما يُسهم في كثيرٍ من المشكلات والأضرار على التخصص الذي تنضوي تحته، أقلها ما تعكسه من سوء سمعة التخصص، واعتقاد البعيدين عنه أنَّ دراساته لا تفيد اللغة والأدب في شيء.
وأظنُّ أنَّ أهمَّ عِلَّةٍ يمكن أن يُردَّ هذا الضعف إليها هي عدم إدراك الباحث ما هي الوظائف الرئيسة التي يفترض أن يقوم بها حين يكون بإزاء نصٍّ من النصوص، وما العمل العلمي الذي ينتظره القارئ منه وهو يتعامل مع ما اختاره من إبداع، وحينها يقف حائراً أمام دراسته، وتائهاً تجاه المطلوب منه، فيضطرُّ إلى كتابة (هرطقاتٍ) و(سخافاتٍ) يملأ بها صفحات كتابه، موهماً غيره أنه أتى بالفتوحات، وجاء بالدرر، وقدَّم المستحيل، وهو يعرف في قرارة نفسه أنه لم يفهم موضوعه أصلا، ولم يكتب فيه شيئا يؤهله لاجتياز (الكفاءة) فضلاً عن استحقاقه لدرجةٍ أكاديميةٍ عاليةٍ مع مرتبة الشرف!
ولعلي لا أتجاوز الحقيقة حين أقول إنَّ أبرز أمرٍ يغيب عن الباحث في مثل هذه الدراسات إجهادُ نفسه في عمليات (الوصف)، وإتعاب قلمه في التأكيد على ملاحظة (ظاهرةٍ) ما، وتضييع وقته في إقناع القارئ بأنَّ هذه الظاهرة موجودةٌ في الميدان الذي تتجه إليه الدراسة، ومن ثمَّ تراه يحشد الشواهد التي تثبت وجودها، ويستهلك أطناناً من العبارات والكلمات ليؤكد على هذه الحقيقة العجيبة، وكأنَّ القُرَّاء أجمعوا على تكذيبه، ولم يبقَ أمامه إلا أن يُقسِم الأيمان المغلَّظة على أنه وجد هذه (الظاهرة الأسلوبية) أو ذلك (الملمح الفني) في نصوص دراسته!
وليت الأمر يتوقَّف عند هذا، بل تراه يذكر في المقدِّمة أنه سيتناول هذه النصوص أو تلك الظاهرة بالتحليل والتعليل والدراسة العلمية الوافية! وأنه لم -وربما لن- يُسبق في بحثه هذا، بل الأدهى والأمر أن يؤكد أنه سيتبع منهجاً (تحليلياً) يتجاوز رصد الظاهرة إلى تحليلها والوقوف عند أسرارها، غير أنه في (التطبيق) لا يفعل أيَّ شيءٍ من ذلك، معتقداً أنَّ مثل هذه الادعاءات المخادعة يمكن أن تنطلي على القارئ الحصيف، ومتوهماً أنه بقوله هذا يكون قد أدَّى الوظيفة المناط بها، وقام بالواجب المطلوب منه، ومن ثمَّ فليس مهماً -في نظره- كيف يتعامل مع نصوص دراسته، ما دام أنه نصَّ في المقدِّمة على أنه سيتبع ذلك المنهج.
أما الأمر الأكثر إدهاشاً فهو ما يلحظه المتأمل -وغير المتأمل أيضاً- في خاتمة البحث، وما يشاهده الناظر في (النتائج) الكبرى التي توصَّل إليها الباحث الذي دوَّنها بكل زهو، مؤكِّداً أنها نتائج واكتشافات بدتْ له بعد طول صحبة - قد تصل إلى سنوات- مع نصوصٍ يدرسها أو برفقة ظاهرةٍ أسلوبية تنتظمها، ثم إذا نظرت في هذه النتائج -وهي الغاية المرجوة والثمرة المطلوبة- لم تجد سوى مجرَّد عمليات (وصف) تتبدَّى للناظر في هذه النصوص للوهلة الأولى، دون الحاجة إلى هذه الدراسة أصلاً، وحين تبحث عن (تحليلٍ) لهذه العمليات، أو عن (قيمة دلالية) أو (جماليات فنية) لتلك الظاهرة الأسلوبية لا تجد كلمةً واحدةً تكشف عن ذلك.
وأظنُّ أنَّ ضعف (التحليل) الذي يعتري أمثال هذه الدراسات راجعٌ إما إلى عدم إدراك الباحث للفرق بين (الوصف) و(التحليل)، وإما إلى توهُّم بعضهم أنَّ المطلوب منه هو الأول دون الثاني، أما ذلك الذي يدرك أنه مطالب بكلتا الوظيفتين، ومع ذلك لا يقوم إلا بالوصف فقط، فلا أجد سبباً يدعوه إلى تجاهل التحليل سوى ضعفه العلمي وعدم قدرته على القيام بهذه الوظيفة المهمة الصعبة التي تحتاج (علميةً واسعة) و(ثقافةً غزيرةً)، إضافةً إلى (إطالة التأمُّل) و(إدامة التفكُّر)، وهنا لا يجد الباحث حلاً إلا الهروب منها، معتمداً على (الوصف المجرَّد) للظواهر؛ لعلَّه أن يخفي هذا الضعف الذي بدا واضحاً في أغلب دراساتنا الأدبية والنقدية والبلاغية.
إنَّ الاكتفاء بعمليات (الوصف) في مثل هذه الدراسات خللٌ جليٌّ وضعفٌ واضح؛ لأنَّ الغاية منها يتجاوز ذلك إلى (التحليل) القائم على (الرصد) و(التعليل) و(النقد) و(الموازنة) واستكناه (القيم الدلالية) و(الجماليات الفنية)، وبيان (الأثر) الذي تحدثه هذه النصوص بما فيها من ظواهر على (المتلقي)، ووصف هذا الأثر وحجمه ومدى قوته وأسبابه، وذلك من خلال ملاحظة العلاقات والوشائج التي تربط بين النصوص، أو تلك التي تكون بين مشاهد النص الواحد، وعدم إغفال السياقات (الاجتماعية) و(التاريخية) و(النفسية) التي يكون لها الأثر الكبير في الكشف عن (الدلالات) و(الجماليات) بصورةٍ واضحةٍ لا خفاء فيها.
وإذا كان هذا الخلل يظهر في الدراسات الأدبية والبلاغية للنصوص الشعرية فإنه يبدو أكثر وضوحاً في تلك الدراسات التي تتخذ من القرآن الكريم ميداناً لها، حيث يلحظ المتصفِّح لكثيرٍ من تلك الدراسات أنَّ الباحث لا يعطي اهتماماً كبيراً بعمليات (التحليل)، مكتفياً بـ(الوصف المجرَّد) الذي تستغني ملاحظته عن هذه الدراسات، فلا عجب أن تجد باحثاً يؤكد لك في أبرز النتائج التي توصل إليها بأنَّ سورةً ما من سور القرآن يتكرَّر فيها (لفظٌ معين) أو يكثر فيها (صوتٌ محدَّد) دون أن يتجاوز ذلك، ولا غرو ألا تخرج من دراسةٍ ربما تجاوزتْ ثلاثمئة صفحة إلا بأنَّ القرآن اعتمد في عرضه لموضوعٍ معينٍ على (الكناية) أو (الاستعارة) دون أن يجهد الدارس نفسه في معرفة (السرِّ) وراء هذا، ولا مفاجأة حين تجد مؤلفاً يحصي في بحثه مواضع (الجناس) أو (الطباق) في سورة أو جزء، ثم ينهي ذلك كله بنتيجةٍ (في غاية الأهمية!) تفيد بأنَّ الفنَّ الفلانيَّ قد تكرَّر في ذلك الميدان كذا مرة، دون أن يطيل النظر في البحث عن الجماليات (الدلالية) و(الفنية) التي أضافها على المعنى، والسعي وراء اكتشاف (الأثر) الذي أحدثه في (المتلقي).