د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يقول الجاحظ راوياً عن نفسه: «طلبتُ علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعتُ إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفتُ على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلَّق بالأيام والأنساب، فلم أظفرْ بما أردتُ إلا عند أدباء الكتاب؛ كالحسن بن وهب وعبد الملك الزيات».
تشي هذه الرواية بدلالاتٍ كثيرة، وتفصح عن مجموعةٍ من المبادئ التي أضحتْ فيما بعد نقطة انطلاقٍ لعديدٍ من القضايا المهمة في نقدنا الأدبي، ومنها ما يتصل بطريقة النظر إلى النصوص، وكيفية الحكم عليها، من خلال ضرورة استحضار الرؤية الكلية للنص، أو استدعاء المنجز الفني للمبدع بكامله، والإحاطة بكامل عناصر العمل الإبداعي، وعدم الاكتفاء بالنظر الجزئي، والتركيز على التفاصيل الجيدة أو الرديئة، حتى يمكن الوصول إلى حكمٍ مطمئن، وتدوين رأيٍ صحيحٍ عادلٍ منصفٍ تجاه النص أو المبدع الذي يتعامل معه العمل النقدي.
إنَّ المطلع على تراثنا النقدي سيلحظ بوضوحٍ أنَّ الممارسات النقدية في ذلك العهد - على اختلاف أنواعها وصورها - كانت تتوجَّه نحو الجزئيات، وتركز على التفاصيل، في ظلِّ غياب الرؤية الكاملة، وانعدام النظر الكلي للمنجز، مما يجعل الأحكام الصادرة بعيدةً كلَّ البعد عن الدقة، ومتجافيةً عن العدل والإنصاف الذي ينتظره القارئ والمبدع من هذه الممارسات.
ومن الإطارات التي يمكن أن تحيط بصورةٍ من صور النقد المجتزأ ما يلحظه المتأمل من إطلاق الأحكام العامة التي يشمل بها الناقد كلَّ نصوص المبدع، منطلقاً في ذلك من إعجابه ببيتٍ أو اثنين، أو حتى مقطوعة، بل حتى قصيدةٍ كاملة، وإذا بك تسمع عبارات الثناء والتبجيل على هذا المبدع الذي يضحي في عين ذلك الناقد (أشعر العرب)، ولا أظنُّ أنَّ مثل هذه الأحكام العامة إلا انفعال عاطفي أحدث في نفسية الناقد المتعطش لنصوصٍ جيدة أثراً بالغاً، فتسرَّع دون تفكيرٍ في تدوين ذلك النوع من النقد، ولو تمهَّل وتأنى لتراجع عن كثيرٍ من هذه الأحكام الشاملة العاطفية المبالغ فيها.
ومن نماذج ذلك ما رواه الأصفهاني من أنَّ القوم اجتمعوا عند الحطيئة حين حضرته الوفاة، وطلبوا منه أن يوصيهم، فقال: من ذا الذي يقول:
إذا أنبضَ الرامون عنها ترنَّمتْ
ترنُّم ثكلى أوجعتها الجنائزُ
قالوا: الشمَّاخ، قال: أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب.
ومثله حين سُئل حسان بن ثابت رضي الله عنه عن أشعر الناس فقال: الذي يقول.. وأنشد أبياتاً لابن الإطنابة، وكما أجاب عبيدة بن هلال اليشكري الخارجي عن أيهما أشعر: جرير أو الفرزدق، فقال: مَن الذي يقول.. وأنشد أبياتاً، فقالوا: جرير، فقال: هو ذاك، وحين سُئل الفرزدق عن أشعر العرب قال: بشر بن أبي خازم، فقيل له: بماذا؟ قال: بقوله:
ثوى في مُلحَدٍ لا بُدَّ منــه كفى بالموت نأياً واغترابا
ثم سُئل جرير السؤال نفسه فأجاب بالشاعر نفسه، حيث يقول:
رهينُ بلىً وكلُّ فتى سيبلى
فشُقِّي الجيب وانتحبي انتحابا
بل الانفعال النفسي الوقتي والانبهار الأولي يصل أوْجه عند بعض النقاد، ويتجاوز ذلك إلى إعطاء أحكامٍ نقديةٍ عامةٍ بالنظر إلى أنصاف الأبيات، فقد روى الأصفهاني أنَّ النابغة حين حكم على قيس بن الخطيم بأنه أشعر الناس قالت الأوس: لم يزد قيسُ بن الخطيم النابغةَ على: (أتعرف رسماً كاطِّراد المذاهبِ) نصفِ البيت حتى قال: أنت أشعر الناس.. بل وصل الأمر في جزئية الممارسات النقدية في ذلك العصر إلى أنَّ النقاد صاروا يختلفون في أشعر نصف بيتٍ قالته العرب، فقال بعضهم: هو قول أبي ذؤيب: (والدهر ليــس بــمُعتبٍ مَن يــجزعُ)، وقال بعضهم: قول الهلالي: (نُوكَّل بالأدنى وإنْ جلَّ ما يمضي)، وقال آخرون: قول زُميل: (ومن يكُ رهناً للحـوادث يَغْلَــقِ)، وهكذا يتجزَّأ النقد، وتُطلق أحكامٌ عامَّةٌ شاملةٌ بناءً على أبياتٍ أو بيتٍ واحد أو نصف بيت، مع أنَّ الناظر الحصيف في مثل هذه النصوص لا يُنكر أنها بلغت مرحلةً عاليةً من الجودة والتميز، غير أنَّ الخلل هنا هو إصدار حكمٍ عامٍ على المبدع - جودةً أو رداءةً - والاطمئنان إليه، دون استدعاء الصورة الكاملة لنصوصه.
وينبغي ألا يُفهم من هذا الكلام أني أعتب على هذه النظرة غير الكاملة؛ لأنَّ طبيعة الحياة الاجتماعية وتأثر العرب بالبيئة يفرضان ذلك، وكما يقول أحد المعاصرين: إذا كان البيت هو الذي ستتناقله الألسن، فليركز فيه الشاعر ما في نفسه من معنى حتى لا يحتاج إلى غيره، وحتى يجمع فيه على قلة ألفاظه أكبر قدر ممكن من المعاني، فكأنَّ الإيجاز كان صدىً للحالة الاجتماعية إلى ما يخفُّ حفظه، ويسهل تنقُّله في بيئة تعتمد على الرواية والحفظ.
غير أنَّ الإشكال هنا يحدث حين يمتد هذا النوع من الممارسات النقدية ليصل إلى عصرنا هذا الذي ندَّعي فيه بأنَّ النقد قد نضج وتطور، وأضحى علماً له حدوده وفنونه، ونزعم أنَّ النقاد يعون ضرورة النظر إلى النص الكامل والنصوص المجموعة قبل الحكم على شاعر بأي حكم، حيث يُلحظ احتفاء كثير من النقاد بمبدعٍ معين، وتمجيده وتبجيله، ووصفه بشاعر العصر أو أمير الشعراء، أو أديب المرحلة، ومبدع هذا الزمن، لأجل بيتٍ قاله، أو قصيدةٍ ألقاها، أو روايةٍ نسج أحداثها، أو قصةٍ كتبها، أو مسرحيةٍ أبدع فصولها، وهنا يكون العبقري الذي لا يشق له غبار، والأديب الأريب الذي يُنتظر إنتاجه في كل مناسبة، وتصبح كل مؤلفاته من أكثر الكتب مبيعاً، دون أن يدرك أحدٌ أنَّ الجودة متوجهةٌ إلى ذلك النص بالتحديد دون غيره من النصوص الأخرى.
وإذا كانت مثل هذه الأحكام العامة لا تنطلي على الناقد الحصيف والقارئ العارف المتذوق فإنها ستنطلي حتماً على غيرهما، وهنا تعظم المشكلة، وتتفاقم البلوى، فترى ذلك البيت أو تلك القصيدة تقدِّم الشاعر في المحافل، وتتيح له مكاناً في الأمسيات والمناسبات الثقافية، وتصنع له تلك الرواية أو القصة اسماً لامعاً في عالم الأدب؛ لأنَّ العامة لم يفطنوا إلى خطورة النظرة الجزئية في النقد، فانخدع الجميع، وصاروا يهتفون له ويصفقون لحروفه مهما كان مستواها الفني وقيمتها الجمالية.
أما أكبر المصائب فهي حين يصدق المبدع نفسه، فيكتب السخافات والسفاهات، معتمداً على نجاح قصيدةٍ أو روايةٍ نال بها الثناء وحاز لأجلها الاستحسان، ومعتقداً أنَّ كل ما كتبه وما سيكتبه لا بُدَّ أن يكون بالجودة نفسها، بل ربما نشر روايته القديمة، وأخرج نصوصه أيام الصبا، مترنماً بالأحكام النقدية التي وصفتْ نصَّاً أو اثنين له بالجودة والتميز.
إنَّ على الناقد الحصيف أن يتحكم في مشاعره حين يصدر أحكامه النقدية، وأن يكون هادئاً بعيداً عن الانفعال المبالغ فيه، حيث يمكن أن يؤدي هذا الانفعال إلى الانحراف بالحكم النقدي نحو العمومية، والإيقاع به في فخ الشمولية، فيمنح المبدع مكانةً أدبيةً لا يستحقها، ويصعد به إلى منزلةٍ إبداعيةٍ ليس قريباً منها، وهو بذلك يخون أمانة قلمه أولاً، ويجعل المبدع واهماً فيما يستحقه من مكانة، ويسهم في التمويه على القارئ العادي وخداعه، فينظر بإجلالٍ وتقديرٍ إلى كلِّ ما يصدره ذلك المبدع من نصوص، معتقداً أنها المثل الأعلى في التميز والجودة والإحسان.