سعد البواردي
عوض يحيى العُمري
153 صفحة من القطع المتوسط
أودعنا ديوانه حزناً.. وما هو أعتى وأمض من الحزن.. إنه الموت.. أودعنا بكائيته ثم ودعنا.!
ما هكذا يا عزيزي عوض تعوضنا في شعرك بكل أثقال الحرف.. وبكل تداعيات الخوف المبكر، وأنت الشاعر المتألق في أدبياتك، وقد لمحتها سريعاً وأنا أستعرض العناوين في لهفة إلى مضامينها قبل أن يصدمني أسفها.. ويروعني موتها.
ومع هذا المشهد الدرامي الباكي المبكر أشعر أن ما في محصلتها سوف يكشف لي عن وجه جديد يعمره الوجه.. وتصوغه التجربة لما بعد الأسف.. وما قبل الموت المجازي..
ماذا عن حكيم قوم شاعرنا وقد احتكم إليه في انتظار حكم محكمة العمر وقد شاخ قبل أوانه؟!
ردي صباي وإن كان الصبا ولَّى
فذو الثلاثين يدنو ليله كهلا
يا بهجة لم يكن لي من بشاشتها
وجه به رونقي ضيعته طفلا؟
أهو اليتم المبكر يا عزيزي؟ كلنا عشنا اليتم والهم ولم نستسلم لأثقاله.. حاولنا فتح نافذة الأمل كي نطل منها على فجر الحياة محتسبين للأجر.. وثواب الصبر..
ها قد بلغنا مدانا مأتما سبحت
في عين باكيه أحلام الصبا قتلى
وسائرين بهذا العمر يجمعنا
أنَّا غريمان ظلماً شيت أم عدلا
تبدو ملامح الصورة أكثر وضوحا.. إنه فراق قلب وحب لا يكاد يتحمله.. غريماك ومحبين واغتراب وفراق.. وأشواق معذبة.. وتباريح أسى لا يمكن استرجاع صباها.. ولا لذيذ صبوتها.. إنه أشبه بالسجين في مخاطبته للعقل أمام حكيم قوم رأي في رأيه عقلا..
شاعرنا مسكين مسكون بالغربة حتى أمام قريته (القديمة) الغافية الساهرة في أحضان جبل (المكلا)
مدي يديك فإن قيدي موثق
وبكاء جرحي في الظلام مشقق
وأنا الغريب يتيم قلب لم أزل
أقتات دمعي للرحيل وأشرق
منذ افترقنا عشت في حدق الدجى
يغفو على جسدي الحصار ويشرق
أبجديات الغربة.. وأدبيات اليتم.. تأخذ مكانها في الصدارة.. غربة الزمان.. غربة المكان.. غربة الانسان وغربة الأوطان انها باتساع مساحتها لا تسمح الا بالقدر القليل من التنفس..
يا أنت ما للحب بعدك وجهة
أو بعد ما شاب الفؤاد سأعشق؟
ويناشدها للمرة الثانية أن تمد إليه يدها كي تأخذه إلى النور:
مدي يديك.. أليس لي فجر إذا
بزغ الرضا.. وشبيبته تتفتق؟
بلى يا فارس رحلتنا.. لك فجر، أنت المسؤول عن تفجيره.. وشبيبته أنت القادر على جمعها.. لا أحد في زحمة المأساة المشتركة يمد يده للآخر.. ألم تسمع مقولة الشاعر:
ما حك شعرك مثل ظفرك
فتولَّ أنت جميع أمرك
(ريف اللظى) عنوان لقصيدته التالية.. نفس الشكوى ونفس الأخيلة الحزينة نفس البوح ونفس الجرح.. إلا أن هذه المرة اقترب من حافة القبر الشعري.
لي من جر دمي مداد خط أمنيتي
على هشيم ضلوع كفَّ أبواقي
فعدت لا واجداً أهلا ولا وطنا
في سفح قلبي ولا في غور أعماقي
ومت ظمآن ما سال الخنا بدمي
لما ظمئت.. وما غنيت للساقي
شهادة منك تشهد لك بعدم الاستسلام حتى في أخطر اللحظات وأقساها على النفس.. وأسفا.. أموت (عنوان الديوان هل تحمل شيئاً من جديد كي يصطفيها كعنوان؟! لا شيء البتة يمكن إضافته:
أسفاً.. أموت وفي يدي أهزوجتي
عذراء في يد بائع امشتر
أسفا أموت وفوق قبري تزدهي
صور الوجوه بما تنم وتفتري
نفس ملامح الصورة الشاكية والباكية.. حتى الشكر الجزيل خارج دائرة مفرداته الشعرية.. السوداوية في شعر شاعرنا الجميل عوض يحيى العمري عبر ديوانه (أسفاً.. أموت) تلاحقنا بشكل يدعو إلى الشفقة وكأن لا شيء غير القنوط والشكوى.. كما أن هناك موتاً توجد حياة.. وكما يوجد فرح.. وكما في العمر ألم يوجد أمل..
اتجاوز بعضاً من قصائده (مسافر) و(بالضبط) و(لمنفاك) و(مهجة) (ثكلى) و(متكئ) كلها تدور في فلك الأحزان دون أفراح. أستشهد بما قاله في جل قصائده بهذا البيت من مقطوعته مهجة ثكلى:
أيا كل أفراحي خذي مدية الردى
فقد همتها جرحاً وأحجبتها تبلى
وأسقيتها من فيض قلبي نجيعة
فما حكمت لي حين حاكمتها عدلا
وعاشت على أوجاع عمري مهيبة
وماتت به شمطاء مسرفة جذلي
من قصيدته (غاية) أختار بعضا من مواقعها لغاية تلمس شيء جديد يقربنا من الحلم الذي تطارده أشباح شاعرنا فما يظهر.. يقول شاعرنا:
اغرقت أقلامي بحبر نهايتي
وزرعت في كفي ملح روايتي
ما كنت احلم أن أمج قصيدة
سكبت بصدري هل تبث شكايتي
فالدمع اكبر قصة ألهمتها
وابرُّ أصحابي وذعر وصايتي
ويخاطب دمعه المنساب على خديه:
يا أنت يا دمعي عرفتك صاحبا
ورسمت في خدي عمرك آيتي
أمط اللثام عن الوجود لربما
ركزت على صور الليالي رايتي
لا ضر ان زدت المعذب غربة
فقد اصطحبت مع الرحيل نهايتي
يخاطب كل الأشياء من حوله.. يخطب أن تقوم نيابة عنه بتغيير مسار حياته الشعرية.. فكا لها من أسرها.. هو بين الانتظار والاحتضار.. ومع هذا أشعر بصحبة شاعرنا في رحلتنا اللذيذة معه رغم مرارة مذاقها إلا أنها حلوة في إيقاعها ووقعها من خلال توصيفها وتوظيفها للمفردات ورغم كآبة الصورة.. أمام مشهد الشعر الجنائزي (أسفا.. أموت) أدعو له بطول العمر.. بعيدا عن مقبرة الأحزان.. وأسف العجز.