في خبر هاتفي مفاجئ نزل علي كالصاعقة لم أتمالك نفسي مع إيماني بقضاء الله وقدره ينقل إلي خبر وفاة معالي الأخ الصديق محمد بن أحمد الرشيد نتيجة لسكته قلبية أصابته بعد أن ودّع عدداً من أصدقائه ومحبيه الذين حضروا جلسته المعتادة في منزله العامر بعد مغرب السبت 20 محرم 1435هـ(23 نوفمبر 2013م). والموت مكتوب على كل بني البشر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. هاتفت صديقي وصديق الوزير زميلي وأخي أبا حمد المهندس عبد الله الفوزان لأستطلع مصداقية ما سمعت وإذا به يؤكد الخبر وأنه ملازم لمنزل أبي أحمد وهو أقرب الأصدقاء له (رحمه الله).
كنت والفوزان مع كوكبة من محبي الدكتور الرشيد في ضيافته بمزرعته في جنوب الرياض، قبل أسبوعين وكان - رحمه الله - في تلك الأمسية في غاية السرور والامتنان بحضورنا على شرف صديق الجميع معالي الدكتور صالح العذل، وكعادته كان كريماً في ضيافته، محباً وسخياً في ترحيبه بالجميع سعيداً بحضورهم، لم يترك أحداً إلاّ خصه بالكلام الجميل، ونحن القريبين من الدكتور الرشيد نعرف فيه هذه الخصال لكننا في تلك المناسبة شاهدنا شخصية أخرى تفوق في الوصف بما حبانا به من حنان ولم يفرق بين كبير أو صغير، وامتدت حفاوته لتشمل كل من كان يقوم على خدمتنا في تلك الأمسية الجميلة التي ستبقى في الذاكرة إلى ما شاء الله.
أبا أحمد (محمد الرشيد) هذه الكنية التي يعرفه الجميع بها بعيداً عن الألقاب والمناصب لدرجة أننا ننسى اسمه الأول من شدة تواضعه معنا وتقديرنا له منذ معرفتنا به أستاذاً وعميداً ومسئولاً ووزيراً وحتى بعد أن غادر الوزارة ، وكنا على مقربة منه وهو في قمة تألقه، حيث لم يترك نشاطه العلمي في التربية وهمومها وهموم المجتمع وتقديم الرأي والمشورة . لم يترك ندوة أو مؤتمراً علميا في مجال التربية في داخل البلاد أو خارجها إلاّ وكان مشاركاً إما ببحث أو مناقشاً أو بالحضور من أجل الفائدة والاستفادة.
كان محمد الرشيد شعلة مضيئة طوال مسيرته العلمية والعملية، وفي تفاعله مع المجتمع المحلي وفي محيط أسرته وأقربائه وأصدقائه، وقد منحه الله صفات كثيرة ومنها الوفاء والكرم والصدق مع النفس، وحبه للخير ومساعدة المحتاجين والفزعة بوجه حق لذوي الحاجات ومن لهم مطالب وحقوق. وللوطن أرضاً وقيادة وشعباً مكانة كبيرة في قلبه وعقله ولم يكن يسمح لأي من كان أن يتعرض للوطن بأي إساءة سواء في الداخل أو الخارج، وقد نافح بقلمه وبكلماته الصادقة وبالممارسة العملية على أرض الواقع مؤكداً أن المملكة العربية السعودية هي أرض العلم والمعرفة وأن الله خصها بأن تكون حاضنة للحرمين الشريفين وهو شرف ما بعده شرف ، مما جعل المملكة تباهي الأمم لتمسكها بكتاب الله العزيز وبسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك بذل الدكتور الرشيد جهده بتوفيق من الله جلّ وعلا ثم بدعم وتوجيه ملوك دولتنا المباركة ومسئوليها، أن يكون التعليم هو الأساس في بناء الأمة وأن المملكة تتفرد بمزايا كثيرة ومنها وحدتها القوية التي أرسى دعائمها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبد الرحمن(رحمه الله) وموروثها التاريخي والثقافي ، وكان طموحه أن تكون المملكة رائدة في التعليم ، وعندما أصبح وزيراً للمعارف - التربية والتعليم- رفع شعاراً تربوياً راقياً يقول: (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة) وأن تطوير التعليم يهدف إلى تخريج شباب يعبدون الله على بصيرة ويدركون قيمة وطنهم ومكتسباته. بذل جهداً فائقاً ومعه قادة التربية في تقديم منهج التربية الوطنية في التعليم العام والذي اشتمل على حزمة من الموضوعات التي تتناسب مع مختلف المراحل العمرية للطلاب والتي تركز على مكتسبات الوطن وموروثه الحضاري، وتحمّل - الرشيد - مرحلة جديدة وحرجة في إدارة شؤون التعليم عندما صدرت توجيهات الدولة بتوحيد إدارة تعليم البنين والبنات في وزارة واحدة (وزارة التربية والتعليم) وقد أدار هذه المسئولية بعزيمة صادقة وتحلى بالصبر والحكمة في شرح مرحلة جديدة ونقلة نوعية للرقي بالتعليم في بلادنا، وقابل كل من رماه بالسهام بالأدب الراقي والصفح الجميل. كنت معه وبالقرب منه حقبة من الزمان وهو يعمل ليل نهار، وبدون كلل أو ملل في تطوير التعليم وتحسين البيئة المدرسية والبنى التحتية وبمصادر التعلم العصرية والتقنيات الحديثة، وتوجيه الاهتمام بمدرس تحفيظ القرآن الكريم وذوي الاحتياجات الخاصة ، وسعى أن يكون للمملكة مشركة قوية في المنظمات الإقليمية والقارية والدولية المعنية بالتربية والعلوم. وزار مختلف ومحافظات المملكة ، مدنها وقراها ، وكان يستمع للأهالي ويقدر حرصهم على ما يقدمون له من طلبات وتمنيات على الدولة أن تحققها لهم سواء في التعليم أو في الخدمات الأخرى، فكان خير أمين على نقل هموم المواطنين إلى ولاة الأمر، وما يخص التعليم فكان يعطيه الأولوية في التنفيذ. ولماّ كانت الآثار والمتاحف واحدة من قطاعات الوزارة لاحظ أن بعض مسئولي الوزارة ومديري التعليم ينظرون للآثار نظرة دونية وأن بعضهم يجهلون قيمة الآثار وكانوا يرددون مقولة « الحي أبدى من الميت «، وقف أمامهم بقوة وصرامة قائلاً « هناك فرق بين القناعة وتحمل المسئولية، فالذي ليس له قناعة بأهمية الآثار فهذا شأنه لكن الواجب الرسمي يلزمه ألاّ يتصرف على غير ما قررته الدولة وأنظمتها، وأقولها لكم بصريح العبارة: أولاً أنني مقتنع بالآثار وأهميتها للعلم والمعرفة وهي جزء أساسي من تاريخ بلادنا، وثانياً أنا مؤتمن على الآثار في مختلف أرجاء الوطن، ولو طلب مني ولي الأمر أن أقف حارساً على أثر في أقصى مكان من المملكة لفعلت ذلك «، لقد قالها الوزير الرشيد أعقب القول بالفعل ورفع من شأن الآثار بأن ربط أعمالها به شخصياً وجعلها وكالة رئيسية من وكالات الوزارة. نعم نجحت مساعيه - رحمه الله - لدى ولاة الأمر بأن يكون للآثار مكانة ورعاية خاصة فتحقق ذلك بضم الآثار إلى الهيئة العامة للسياحة لتأخذ مكانتها وحقها من الرعاية والاهتمام وقد تحقق ذلك ولله الحمد.
وللدكتور محمد الرشيد مواقف وأعمال جليلة يصعب حصرها بذلها في خدمة التعليم في جامعة الملك سعود ومكتب التربية لدول الخليج العربية ومجلس الشورى ووزارة التربية والتعليم سيذكرها تاريخ التعليم ورجاله وأبنائه.
ولد محمد الرشيد في مسقط في بلده المجمعة وتلقى تعليمه المبكر فيها ثم في الرياض وتحصل على الشهادة الجامعية من جامعة أم القرى ونال درجتي الماجستير والدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية في التربية.
للدكتور محمد الرشيد عشرات المؤلفات والبحوث التربوية والثقافة العامة والمقالات التوعوية والموجهة في موضوعات تتصل بهموم المجتمع.
رحمك الله يا أبا أحمد وأسكنك فسيح جناته وإن العين لتدمع والقلب ليحزن وإنا على فراقك لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.