د.عبد الرحمن الحبيب
بعد انتصار ثورتها تُصارع كثير من الدول ذات النظم الإيديولوجية «الخلاصية» بين خيارين: تآلفها داخلياً وسلميتها مع الجوار الإقليمي والنظام الدولي، أو استمرار ثورتها في الداخل والخارج.. حرب المطلق: «الأنا» الصحيح مع الآخرين الخطأ.. حرب خلاص مع الجميع!
الأمثلة كثيرة، أشهرها نموذج الثورة البلشفية للاتحاد السوفييتي الذي عانى بين خياري الاشتراكية في بلد واحد (خط ستالين الذي فرضه) أو تصدير الثورة الاشتراكية للجميع (خط تروتسكي الذي اغتيل في المنفى). المعضلة تكمن بأن النظام الثوري إذا تآلف مع الداخل ومع النظام الدولي فسيؤدي إلى تحلل إيديولوجيته وانتفاء مسوغ وجوده كمخلص للبشر، مما يراه المتشددون خيانة لمبادئهم ويراه النافذون خسارة لمصالحهم ويراه آخرون تهديدا لتماسك الدولة. إنما الواقع العملي يشهد بأن دول الإيديولوجيا الخلاصية تحللت سريعاً أو بطيئاً، ولم يبق في عالمنا سوى إيران وكوريا الشمالية، إذا لم نضف إليها داعش بمساحة أكبر من كوريا الشمالية!
موضوعنا إيران التي حصل فيها مؤخراً تطوران مهمان: الأول توقيعها الاتفاق النووي الدولي، الذي صرح إثره روحاني بأن إيران تمد يدها للجميع؛ والثاني نتائج انتخاباتها (المقيدة) بفوز الاصلاحيين الأسبوع الماضي، الذي قال بعدها روحاني بأن إيران تتطلع للانفتاح على العالم الخارجي.. فهل ذلك يمهد الطريق لاندماج إيران في المجتمع الدولي؟ أم أنهما سيعبران كبوادر سابقة (حكومة خاتمي مثلاً) اضمحلت؟
يمكن فهم النشاط الإيراني على مستويين دوليين: الاقتصادي، والسياسي. آخر المؤشرات على المستوى الاقتصادي ظهر قبل أيام في بيان من «فريق عمل النشاط المالي» (إف آي تي إف) يحذر الدول الأعضاء من مخاطر تعامل مصارفها مع إيران بسبب علاقتها (المقصودة وغير المقصودة) في غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.. هذا الفريق أنشأته مجموعة الدول الصناعية السبع ثم لحقت بها عدة دول منها روسيا والصين؛ وفيه يقدم الأعضاء تقييماً لتطبيق معاييره، ويتبعها بإجراءات قانونية ملزمة للدول التي تفشل في معالجة أوجه القصور بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. هذا البيان له تداعيات مهمة، لأنه نبَّه إذا فشلت إيران في مكافحة ذلك، سيطرح «الفريق» دعوة الدول الأعضاء لتعزيز إجراءاتها المضادة لإيران في جلسته القادمة يونيو 2016، أي عقوبات أكثر مما كان قبل توقيع الاتفاق النووي.
ورغم أن الاتفاق النووي خفف العقوبات شاملاً أكثر من 400 مؤسسة إيرانية أزيلت من قوائم العقوبات الأمريكية، إلا أن أكثر من 200 جهة، بما فيها الكيانات الاقتصادية الإيرانية الهامة، لا تزال مدرجة على لائحة العقوبات، كما توضح كاثرين باور (أستاذة بمعهد واشنطن). ولا يزال العمل مستمراً بتدابير مضادة «لحماية النظام المالي الدولي من عمليات غسل الأموال المستمرة والكبيرة ومخاطر عمليات تمويل الإرهاب التي مصدرها إيران».. هذه العبارة في بيان «الفريق» المذكور. كما أنه وفقاً لبيان من وزارة الخزانة الأمريكية، فإن المؤسسات المالية في إيران «تشارك عن قصد في ممارسات مضللة للتمويه عن السلوك غير المشروع».
أما من ناحية سوق النفط، فيرى الاقتصاديون أن تعافي تسويق النفط الإيراني سيستغرق سنوات حسب وكالة فيتش، إذ يستبعد تسرع شركات النفط العالمية بالمخاطرة لتخصيص استثماراتها للمشاريع الإيرانية حسبما ذكر كارستن فريتش، محلل النفط لدى كومرتس بنك. أضف إلى ذلك أن تنفيذ بنود الاتفاق النووي لن يتم فجأة بل يمهد طريقاً طويلاً لتخفيف العقوبات الدولية بالتدريج على إيران، لتحقق من تنفيذها للاتفاق النووي.
المسالة لا تقتصر على الاقتصاد فقط، فعلى المستوى السياسي لا يزال الغرب يتهم إيران بأنها داعم مباشر للمنظمات الإرهابية وتتدخل في شؤون دول الجوار وعامل أساسي في عدم استقرار الشرق الأوسط والعالم.. بل إيران نفسها لا تتوانى عن الافتخار بدعمها لمنظمات تعد إرهابية في المنظومة الدولية، فضلاً عن تفجيرات ومحاولات اغتيال ثبت قضائياً أن مدبرها منظمات رسمية في إيران..
ورغم وجود أصوات غربية تنادي بتخفيف العقوبات على إيران مرحبة بالاتفاق النووي معها، ويقابلها أصوات غربية أخرى مضادة ترى مجابهة إيران؛ إنما أصحاب الرأي الذي ساد يرون أن اتفاقاً وإن كانت تشوبه نواقص عدة هو أفضل، مثلما قال أوباما:» إن الاتفاق لا يلغي كافة التهديدات التي تشكلها إيران لجيرانها أو للعالم، لكنه أفضل سبيل لضمان عدم حصول إيران على قنبلة نووية.» فأمريكا لا ترى في النظام الإيراني طرفاً موثوقاً، إذ يقول أوباما: «سيكون لإيران مزيد من الموارد لجيشها وللأنشطة الأخرى التي تشكل تهديداً حينما ترفع العقوبات.. لكن ذلك لن يغير قواعد اللعبة...».
يمكن تلخيص النظرة الأمريكية بأن إيران داعم لتنظيمات إرهابية، وأن سياستها التدخلية هي إحدى المشاكل الأساسية في الشرق الأوسط، لكنها في نفس الوقت تشارك أمريكا في مواجهة بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى.. ومن ثم فإن الدخول مع إيران في اتفاق كمقدمة لاحتوائها وتدجينها في المنظومة الدولية ستكون مجازفة تستحق العناء..
إنما المسألة ليست في نظرة وموقف الغرب أو أمريكا أو السعودية بل في سلوك إيران.. اقتصادياً فإن الخطوات الأولى - كما يؤكد الخبراء الدوليين - لإصلاح وضعها هي تحسين مستوى تقييمها من قبل «صندوق النقد الدولي» ومن «فريق العمل» المذكور. وإذا كانت إيران نفسها تطالب الصندوق والفريق بإعادة تقييمها، فإن الأول قدم توصياته إليها بضرورة «مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب كي يسهّل إعادة دمجها في النظام الاقتصادي العالمي..»، أما الثاني فرغم أنه أشار إلى الجهود القانونية في إيران لمكافحة غسيل الأموال، فقد أشار أيضاً إلى «غياب الجهود المشابهة بما يتعلق بالإرهاب».
المفارقة أن الأمين التنفيذي للفريق أكد الشهر الماضي أن إيران «أبدت استعدادها» لبدء التعاون، إلا أن البيان الأخير للفريق أوضح أن الواقع يناقض التصريحات الإيرانية.
أما سياسياً، فلا تصريحاتها ولا سلوكها يبشر بإقامة علاقات طبيعية إقليمياً أو دولياً.. فماذا يخبئ المستقبل حتى تلوح في الأفق بشائر تغيير في سلوكها العدواني فإن اندماج إيران في المجتمع الدولي يبدو وعراً طويلاً إن لم يكن مسدوداً على المدى المنظور.. إنها أزمة النظم الإيديولوجية المغلقة بين تيار متشدد بقاؤه يستمر بالأزمات مع الآخرين، وتيار إصلاحي يسعى للخروج من الأزمات، فأيهما ينجح؟ الإجابة في إيران.